منذ انطلاق الحراك الشّعبي في ١٧ تشرين الاول ٢٠١٩، ميّز الرّئيس نبيه برّي بين حراك صادق يطالب بحقوق معيشيّة محقّة، وبين حراك مشبوه يريد استغلال أوجاع النّاس ومطالبهم، لتحقيق أهداف أبعد ما تكون عن مصلحة لبنان وشعبه.
وعقب استقالة الرّئيس سعد الحريري، طالب الرئيس نبيه برّي بتمثيل الحراك بحصّة وازنة في الحكومة الجديدة المفترضة، وذهب أبعد من ذلك، عندما سئل عن الطّائفة الّتي سيحسب عليها وزراء الحراك، باقتراح اضافة طائفة جديدة هي طائفة الحراك، ليكون ذلك، لو تمّ، خطوة أولى نحو دولة مدنيّة، لا طائفيّة، لا يفتأ الرّئيس برّي يطالب بها، ويسعى إليها، وهذا أحد المطالب الأساسيّة الّتي رفعت في شعارات الحراك.
ولأنّ نبيه برّي هو رئيس البرلمان، وحامي التّشريع، وصمّام أمان الدّولة، نجح في تكريس زعامته الوطنيّة، وتأكيد حضوره المتميّز، كرجل دولة مترفّع عن تفاصيل يراه غيره جواهر، متجاهل سيل الاتّهامات الباطلة الّتي حاولت النّيل من حضوره وهيبته، فظلّ قادراً على تدوير الزّوايا، وجمع التّناقضات، وابتكار الحلول، وتحدّي المرحلة رغم صعوبتها، ورغم تخلّي بعض الكتل والاحزاب عن مسؤوليّاتهم، ومحاولة البعض ركوب الموجة، بعدما كانوا على مدى سنوات طويلة، سببًا في نزول النّاس إلى الشّارع.
لقد نجح نبيه برّي في مواجهة العابثين باستقرار البلد، والسّاعين إلى ضرب صيغته، والذّهاب به إلى فراغ قاتل، يشلّ مؤسّساته، ويجرّ إلى فوضى بدون ضوابط قانونيّة ومؤسّساتيّة حاكمة.
هندس نبيه برّي نصاب جلسة التّصديق على الموازنة، بحرفيّة غير مسبوقة، وهو أمر كان شبه مستحيل في ظروفه وحيثيّاته، وعندما تخلّف بعض المحسوبين على فريقه عن الحضور في الجلسة، استطاع اقناع بعض المصطفّين في الطّرف الآخر، فأمّن المستقبل والاشتراكي نصاب الجلسة، ما شكّل صدمة للمتابعين، في قدرته الاستثنائية على حياكة التّسويات المستحيلة على غيره.
وكانت جلسة نيل الحكومة الثّقة أمس الثّلاثاء، ضربة قاضية للمراهنين على الفراغ والفوضى، فالتّحشيد الاعلاميّ الّذي سبق الجلسة، والتّحريض على قطع الطّرقات لمنع النّوّاب من الوصول إلى المجلس لم يفلح، وكانت أعداد المتظاهرين هزيلة، رغم اعتبار الاعلام الدّاعم لهم أنّ يوم الثّلاثاء يومي مصيريّ في الصّراع بين الحراك والدّولة.
فعلها نبيه برّي إذن، واستطاع بحنكته وحكمته، أن يغلّب منطق المؤسّسات على منطق الشّارع، وأن ينقل مطالب النّاس إلى حيث يجب أن تكون، ليكون هناك عامل يعمل، ومسؤول يُحاسب، وشعب يراقب، وقضاء يحاسب..
أصبح لدينا الآن حكومة، وعليها أن تثبت للنّاس نزاهتها، وقدرتها على تحدّي الصّعوبات الماليّة والاقتصاديّة والمعيشيّة.
وأصبح واجبًا على الحكومة والقوى السّياسيّة المشاركة أن تقدّم حلولًا للأزمات المتراكمة، وعلى المجتمع المدني والاعلام الهادف والقضاء النّزيه، أن يتابعوا ويراقبوا ويحاسبوا، ويوقفوا المسؤولين عند مسؤوليّاتهم.
لقد فعل نبيه برّي ما عليه فعله، فعل وحده ما كان واجبًا على الجميع، وبقي للحكومة العمل والانجاز، ولم يفته أن يحذّر من المناكفات السّياسيّة، في هذه اللّحظة الاستثنائيّة؛ ودعا إلى تضافر الجهود المخلصة لانقاذ لبنان، وإلّا، فقد نذهب إلى الانهيار الكبير، وقد نشهد ثورة جياع عارمة، تطيح بكلّ ما تبقّى..
وما على النّبيه إلّا البلاغ..