ليس من عادات رئيس مجلس النواب نبيه برّي أن يحبط مبادرات إنقاذيّة، وهو صاحبها ومبتكرها، وليس من سماته أن يعرقل اتّفاقًا محلّيًّا ودوليًّا حول لبنان، وإذا حاول البعض الضّغط عليه لإحراجه بإظهاره بمظهر المعرقل، فإنّه لن يساوم على الثّوابت والمبادىء، ولن يعطي في السّلم ما أخذه في الحرب!
قد يختلف كثيرون مع وعلى نبيه برّي، لكنّ الجميع يجمع على دوره في حفظ التّوازنات الدّاخليّة المعقّدة، وهو الأكثر فهمًا لتركيبة لبنان العميقة، وهو المخضرم المعاصر لرجالات الدّولة.
ويجب الفصل، بين نبيه بري الدّاخلي ونبيه بري الخارجي، لنفهم تركيبة الرجل السّياسيّة والوطنيّة، ونفهم أيضًا، إصراره على التّمسّك بوزارة الماليّة والمشاركة بتسمية الوزراء الشّيعة.
فالرّجل الطّاعن في التّجارب اللّبنانيّة والاقليميّة، يدرك خطورة المسّ بالثّوابت الوطنيّة، وخطورة استقواء الدّاخل بالخارج لفرض أجندات لاوطنيّة ولاسياديّة!
هنا، يبرز نبيه برّي المتشدّد بآرائه، العنيد بطروحاته، الشّرس بالدّفاع عن ثوابته، ويتصرّف بثقل الأمانة الّتي يحملها، أمانة الامام موسى الصّدر، فينطق باسم الثّنائي الشّيعي ظاهرًا، وباسم لبنان باطنًا، لبنان الضّعيف التّركيب بتنوّع طوائفه ومذاهبه، فلا مجال للتّنازل أمام الضّغوطات، ولا مكان للتّراجع أمام التّهديدات، لأنّ التّنازل يعني انكسارًا لمحور كامل في ظلّ حفلة التّطبيع والتّسليم الّتي يقودها ترامب بخطوات متسارعة قبل انتخاباته الرّئاسيّة.
ولدى نبيه برّي من تجارب التّفاوض ما يؤهلّه لقيادة المحور، وحمل لوائه، ورسم مستقبله السّياسي في مرحلة معقّدة لا تقلّ خطورة عن مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الأولى واتّفاقيّة سايكس بيكو؛ ومفاوضات حرب تمّوز حاضرة في أذهان الادارة الامريكية من رايس إلى وولش وصولا الى هيل وشينكر، وما زالت شهادة أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ماثلة في وعي اللّبنانيين والعرب والمسلمين، عندما وضع جهاد الرّئيس نبيه برّي التّفاوضي في كفّة، وجهاد مجهادي المقاومة في كفّة موازية..
أمّا إذا كان الأمر داخليًّا، والعقد محلّيّة، فينبري نبيه برّي رجل الدّولة، المرن والمسهّل، والسّاحر المبتكر لمبادرات وحلول تضع حدًّا للصّراعات الضّيّقة، ولو وصل الأمر إلى التّنازل عن وزير شيعي لمصلحة توزير النّائب فيصل كرامي في حكومة الرّئيس نجيب ميقاتي عام ٢٠١١!
يومها فعل نبيه برّي ما لم يفعله أحد قبله، ومن موقع القويّ الواثق الحريص على لبنان وشعبه.
ولا يحقّ لأحد المزايدة عليه بالأمور الوطنيّة، فطاولات الحوار، ومبادرات الوفاق الّتي قادها، ولا يزال، شاهدة على وطنيّته، وحرصه الدّائم على استقرار لبنان ولو على حساب حركته وطائفته!
أمّا تمسّكه اليوم بوزارة الماليّة وحقّ المشاركة في تسمية الوزراء الشّيعة فهو انسجام مع شخصيّة نبيه برّي الأولى، شخصيّة المقاوم الأوّل، والمحامي الحامي لحدود الوطن وسيادته على كامل أرضه ومائه وسمائه، وحتّى لا يتعاطى الغرب معنا كأنّنا "كمشة شيعة" كما قال الرّئيس برّي لمساعد وزيرة الخزانة الامريكية دانيال غلايزر في تمّوز ٢٠١٦، وحتّى لا يفسّر الدّاخل تواضعنا دعة وطيبتنا تخلّفًا كما خاطب برّي أمين الجميل ذات ٣١ آب، كان لابدّ من وقفة صلبة، وهجمة مرتدّة توقف زحف العاطفة الفرنسيّة باتّجاه العقليّة اللّبنانيّة!
هذا الرّجل الّذي دامت رياسته بحسُن سياسته، تعلّم متى يلينُ ومتى يشتدّ، ولن يخرج مهزومًا من معركة حماية الأقليّات، وحفظ الحقوق والمكتسبات، وسيضيف إلى دفتر مذكّراته سطرًا يختصر عمرًا: "بدأتُ حياتي مقاومًا، ولن أختمها مساومًا!"
حسن الدّر