بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 تشرين الثاني 2020 12:00ص من المطار إلى المقال

حجم الخط
لأن عالم الصحافة والاعلام كالبحر الذي لا ينضب، كلما غرفت منه، طلبت المزيد.. كلمات قالها يوماً كبير من بلادي وأحد رواد الكلمة والسلطة الرابعة في لبنان، هو الراحل الاستاذ غسان تويني الذي نستذكره مع هذه الكلمات مع اشراقة كل شمس ومع صياح الديك..

وهو كغيره من كبار اهل القلم والفكر والثقافة والابداع الذين تركوا بصمة لنا وخريطة طريق كي ننهل المزيد من مهنة المتاعب الى اللاحدود.

بالقلم والريشة وحدهما، وبالحبر الاصيل لا بد ان نخط ونكتب عناون مشرقة ومضيئة لتأدية رسالتنا الاعلامية بتجرد وأمانة بعيداً عن المشاحنات والمزايدات وحب الظهور.

لذا، مهما تقلبت الايام ودار الزمن بحلوه  ومرّه لا بد لنا ان نكمل الطريق في مسيرة شاقة ومضنية، لكنها ساحرة بكل ما للكلمة من معنى، كما انها تزخر بالإقدام والعطاء والتضحيات الجسام في معظم الأحيان، لا سيما وأن الإقدام مع الفشل خير من الاحجام ولو تكلل بالنجاح، والصحافة كالحياة، ميدان رحب فسيح، لا بد ان تسقط فيه مرة تلو المرة، او تتعثر لتنهض بعدها مرات ومرات.

من هنا تبدأ الحكاية واشارة الانطلاق، كجدار الصوت عليك ان تعمل بجهد واصرار لكي تخترق عقول الناس وقلوبهم، ولكي تسرق اذهانهم وابصارهم ومسامعهم الى ما تكتب وتقول في عالم شاسع واسع بات في ايامنا هذه يعاني الامرّين والمشاكل والصعوبات، عنيت به عالم الاصحافة والاعلام. وطالما ان جدار الصوت عادة ينتج عن سرعة فائقة للصوت فعلينا كإعلاميين ان نعمل ونؤدي رسالتنا الاعلامية ومهامنا تلك بسرعة ومن دون تسرع، حيث قطعت هذا الوعد على نفسي منذ ان انطلقت في مسيرتي الاعلامية المتواضعة منذ أواخر السبعينات والمستمرة حتى يوما هذا، ولم اخالف هذا المفهوم او المعيار او المنهج في هذا المضمار.

سألني عدد من الاصدقاء والزملاء وهم كثر، كيف استطعت في عملك المهني الطويل الذي لامس الاربعين عاما حتى الآن، ان تتحول من تغطية نشاطات المطار الذي اقترن اسمك كإعلامي به على مدى هذه الحقبة الطويلة من الزمن، وانتقلت بسحر ساحر الى كتابة المقالات السياسية او غيرها، وهنا لم اجد حرجاً في الاجابة على مثل هذا السؤال، وأحلت كل من سألني عن ذلك، الى مقولة الاستاذ غسان تويني في هذا السياق والى البحر الذي لا ينضب كلما غرفت منه طلبت المزيد.

ففي اواخر السبعينات، بدأت العمل في وزارة الاعلام وبالتحديد في الوكالة الوطنية كمحرر وبدوام مسائي، بعد ان جمعتني الصدفة بالاذاعي المعروف الراحل شفيق جدايل على مدخل اذاعة لبنان، ولم اكن اعرفه آنذاك الا من خلال شاشة التلفزة حيث كان يقدم برنامجاً خاصاً باليانصيب الوطني اللبناني. وربما كانت الجائزة الكبرى تنتظرني هنا من حيث لا ادري.. تقدمت منه للتحية والسلام، واذ بي افاجأ انه رد التحية بأفضل منها وكأنه يعرفني منذ زمن طويل، مع الاشارة طبعا الى الفارق بالعمر في ما بيننا في تلك الفترة. سألني ماذا تعمل يا بني، اجبته انني اتابع دراستي الجامعية في كلية الاعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية وقد قطعت منتصف الطريق في هذا المجال، كما اعمل في فترة قبل الظهر في احد المصارف، وبسرعة البرق قال لي لماذا لا تأتي وتعمل هنا في الوكالة الوطنية، اجبته انني لا اعرف احداً فيها وما زلت اتابع دراستي الجامعية، حينها أصرّ عليّ قائلاً، يا بني اصعد الآن الى الطابق الثالث من هذا المبنى التابع لوزارة الاعلام وحاول مقابلة مدير الوكالة (آنذاك) الاستاذ محمد المشنوق ربما تنجح في الحصول على الخبرة المهنية ريثما تتخرج من جامعتك آملاً لي ان اوفق اذا ما تم التجاوب مع هذه الرغبة. ومن ثم ودعني بكل سلاسة ومحبة وانصرف، وتركني اتخبط في بحر هائج من قبول نصيحته تلك او عدم القبول بها.

وبعد السير مسافة غير قصيرة على الاقدام شعرت انني بحاجة الى تنفيذ تلك النصيحة وفعلا هكذا كان، حيث قصدت مكتب الاستاذ محمد المشنوق، وبعد التحية والسلام، والاستئذان منه بالجلوس سألني من انت وماذا تريد، اجبته انني اريد ان اعمل في الوكالة الوطنية لاكتسب خبرة اعلامية ولو من دون راتب، استغرب المشنوق طلبي هذا، ونظر إليّ وقال: الامر يكاد شبه مستحيل في هكذا ظروف صعبة حالياً،. شكرته مستأذناً للإنصراف والعودة من حيث أتيت، وفي تلك اللحظات على ما اذكر، كنت اتندم على هذه الخطوة وما اقدمت عليه، ولم أكد اهم بمغادرة المكان حتى عاد وقال لي، اجلس وهكذا كان. واردف بالقول بإمكانك ان تحضر في فترة بعدا لظهر بدءاً من اليوم التالي الى مكتب التحرير لتبدأ ما يسمى «فترة ستاج» حينها لم اصدق ما تسمع أذني، وشعرت بفرحة عارمة تكاد لا توصف، وقد زودني ببعض التوجيهات الضرورية واللازمة التي ترتبط بطبيعة مهامي خلال تجربتي الجديدة في العمل. وفعلاً، بدأت الانطلاق بهذه المهم بكل اندفاع. الى جانب عدد من الاعلاميين الذين كانوا يداومون في عملهم بالفترة المسائية ايضاً.

وما هي الا اشهر قليلة، لم تتعدَّ الشهرين او الثلاثة حتى ارسل الاستاذ محمد المشنوق بطلبي الى مكتبه وقال لي: لقد انتدبتك للذهاب الى مطار بيروت الدولي (وهكذا كانت تسميته في حينه) وذلك لتغطية نشاطات المطار بكل تفاصيلها. وحينها شعرت ان زلزلاً ما قد انتابني واصابني في الصميم، وسألته لماذا تريد «نفيي» الى المطار حيث لا اعرف احداً فيه ولا يوجد مكتب او كرسي اجلس عليه، فإبتسم الرجل وقال يا عزيز سيكون مستقبلك انت واعداً في المطار، فالمطار هو «ملطش للاخبار وفخ للسياسيين». وما عليك الا ان تخوض هذه التجربة، وانا على يقين انه سيأتي  يوم وتشكرني فيه على خياري هذا. وقال سيكون لك راتب شهري عبارة عن ثلاثماية ليرة لبنانية وستنضم الى اسرة الوكالة الوطنية بدءاً من الاول من نيسان 1979، وهنا قلت في نفسي نعم قد تكون «كذبة اول نيسان». وفي اليوم التالي انتقلت فعلاً الى المطار وبدأت التعرف الى مجموعة من الموظفين والعاملين في هذا القطاع والمرفق وبدأت أتلهف واترقب لكي «الطش» الاخبار وألتقي بالسياسيين المغادرين والوافدين عبر المطار كما غيرهم من الشخصيات،

وهكذا كان، واستمر الحال على هذا النحو فترة غير قصيرة، حتى تمكنت من الحصول على مكتب في الطابق الاول من مبنى المطار القديم. ومع مرور الوقت استطعت من نسج علاقات وصداقات التي اعتز بها والتي لا يزال الكثير منها يرافقني حتى يومنا هذا، وقد استمريت على هذا الحال حتى نهاية العام 2016 تاريخ بلوغي السن القانونية كمتعاقد مع وزارة الاعلام.

من هنا، وبعد ان اديت واجبي المهني بكل تجرد وضمير على أكمل وجه، حيث كنت قد تزوجت في تلك الفترة من رفيقة دربي وعمري وزميلتي في المهنة ندى الطفيلي عمار وقد رزقنا الله بولدين هما لين وعلي وكل منهما يعمل حالياً خارج لبنان كسائر شابات وشباب لبنان كل في مهنته واختصاصه.

بعد مرور تلك الحقبة الطويلة من العمل المهني في تغطية نشاطات المطار، تابعت العمل في عدة مؤسسات اعلامية ابرزها «اللواء» التي ما بخلت يوما عليّ في فتح الابواب امامي خلال مهنتي هذه، وكان للراحل الكبير العميد عبد الغني سلام فضل كبير في رسم خريطة طريق لي في هذه المؤسسة الكريمة التي نجل ونحترم، ومن ثم كان لرئيس التحرير الاستاذ صلاح سلام ايادٍ بيضاء ايضاً من خلال الوقوف الى جانبي للاستمرار في العطاء والانتقال الى كتابة المقالات السياسية وغير السياسية لا لشيء، الا لانه كالعميد عبد الغني سلام حرص ولا يزال يحرص على جمع شمل اسرة «اللواء» بكل ما للكلمة من معنى.

اما لماذا من المطار الى المقال، ذلك لأنني وجدت في هذه الغاية مساحة واسعة وفرصة سانحة لمواكبة الاحداث والتطورات في لبنان والعالم بشكل شبه يومي من خلال ما اكتسبته وعملت عليه طوال مسيرتي المهنية تلك، ومن خلال استمرار التواصل مع من هم على مقربة من تلك الاحداث، وهذا ما يدفعني الى كتابة مثل تلك المقالات بشفافية وتجرد ومن دون اي تحيز لهذا الطرف او ذاك في بلد نخرته سوسة السياسة حتى العظم ولم تترك لنا، نحن رعيل زمن الصحافة المشرق المضيء، الذي عايشناه عن قرب الا اصراراً على الاستمرار في عملنا المهني لتأدية رسالتنا الوطنية والاعلامية هذه بكل اخلاص وتجرد وبالاستعانة بالريشة والحبر والقلم والكلمة الحرة الصادقة لمواجهة ما يعتري هذا الزمن الرديء من شوائب ومصائب وكوارث افضت الى ما افضت اليه من مسؤولين وسياسيين وحكام في لبنان يدعون انهم رجال دولة في دولة تكاد تفقد الرجال بكل ما للكلمة من معنى، لذلك سنستمر نغرف من بحر الصحافة والاعلام ما استطعنا اليه سبيلا كما سنستمر في قول كلمة حق يراد بها حق ايضا، وهذه هي المدرسة والمسيرة التي نشأنا عليها وانطلقنا منها وسنستمر فيها وإن تبدلت ريشتنا واضافت للكتابة دائماً كما للمطار كذلك المقال.