بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 تشرين الثاني 2018 12:00ص من حكايا لبنان السياسيّة.. سنوات من الهدوء والإصلاح.. والتوتر

كيف أجهضت خطة التطوير الشهابية واندفع البلد في أزمته الطويلة؟

فؤاد شهاب فؤاد شهاب
حجم الخط
بعد أيام قليلة من انتخابه، وجه الرئيس فؤاد شهاب أوّل بيان رئاسي إلى اللبنانيين دعاهم فيه إلى الهدوء، مؤكداً قدرة اللبنانيين على التغلب على الأزمة والعودة إلى الوحدة الوطنية.
وبعد أيام قليلة من تسلمه مهامه الدستورية عهد إلى الرئيس الشهيد رشيد كرامي تأليف حكومة عهده الأولى، فجاءت ثمانية، تضم إلى رئيسها رشيد كرامي كلاً من: فيليب تقلا، شارل حلو، فؤاد النجار، محمّد صفي الدين، يوسف السودا، رفيق نجا وفريد طراد. وكان شعار هذه الحكومة «لا غالب ولا مغلوب»، فعارضت الأوساط المسيحية، ولا سيما حزب الكتائب والقوى السياسية التي كانت مؤيدة للرئيس شمعون هذه الحكومة التي لم تعمر أكثر من ثلاثة أسابيع، لأن تياراً من المواطنين رفض القبول برشيد كرامي رئيساً للوزراء، لأنه كما «استقبل الرئيس فؤاد شهاب بفرحة عارمة في صفوف الجيش وضباطه، وباطلاق الأعيرة النارية ابتهاجاً في الاحياء والقرى التي كانت في ايدي المعارضين، وبقرع اجراس الحزن في بعض الاحياء والقرى المسيحية، التي اعتبرت انتخابه وخروج شمعون من الرئاسة هزيمة سياسية للمسيحيين».
على ذلك شكلت حكومة رباعية جديدة عنوانها (لا غالب ولا مغلوب) مؤلفة من أربعة وزراء: رشيد كرامي رئيساً، حسين العويني، بيار الجميل، وريمون إده أعضاء.
وإذا كان الرئيس شهاب قد باشر بعملية إصلاحية واسعة، فإن لبنان فوجئ ليلة الاحتفال بعيد رأس السنة الجديدة عام 1962، بمحاولة انقلاب فاشلة، قام بها بعض ضباط الجيش بالتعاون مع الحزب السوري القومي الاجتماعي.
جاءت حسابات الضباط خاطئة سواء في تقديرهم غير الدقيق لولاءات ضباط الجيش، أم في سوء قراءتهم للواقع السياسي اللبناني والقوى او الفئات التي يمكنم ان تؤيدهم في حال نجاحهم في الاستيلاء على الحكم بالإضافة إلى سوء تقدير لموقف بعض الدول العربية والكبرى من انقلابهم.
لا شك ان محاولة الانقلاب التي نجحت في الوصول إلى وزارة الدفاع واعتقال ضباط كبار، قبل ان ينجح ضباط الجيش والمكتب الثاني في إفشالها.. ولدت في نفوس الضباط شعوراً بمسؤولية سياسية جديدة، ألا وهي حماية النظام والجيش والعهد، مما جعل دورهم أكبر تأثيراً في الحياة السياسية بسبب متابعتهم اليومية وسهرهم على المجريات السياسية وتحركات الاحزاب السياسيين أي المراقبة وجمع المعلومات عن الشخصيات والأحزاب والاعتماد على المخبرين والتدخل في الانتخابات.
الزمن الصعب
في 23 أيلول 1964 تسلم الرئيس شارل حلو سلطاته الدستورية من الرئيس فؤاد شهاب، فاعتبر العهد الجديد امتداداً للعهد الشهابي، لكن «شهر العسل» أخذ يتغيّر بين الشهابيين وشارل حلو منذ النصف الثاني من العام 1965، بعد ان اتهم الشهابيون وزير الداخلية آنئذ تقي الدين الصلح بمساعدة خصمهم ريمون إده في الانتخابات النيابية الفرعية خلفاً للنائب الراحل انطوان سعيد، في وجه مرشحتهم نهاد سعيد عقيلة النائب الراحل، لكن هذا التطور النفسي - إن جاز التعبير - في العلاقات بين الرئيس حلو والشهابيين السياسيين والاداريين والعسكريين، لم يكن ليؤدي إلى الطلاق لو لم تقع نكسة حزيران 1967 العسكرية التي غيرت معظم المعادلات الاستراتيجية الدولية والإقليمية وفي طليعتها المعادلة الناصرية - الشهابية التي كانت في أساس الاستقرار الوطني والسياسي في لبنان.
وشكل عهد شارل حلو أيضاً انعطافة في التطور الاقتصادي شكلت ايذاناً ببدء مرحلة الانكماش، وكانت أزمة انترا في أواخر عام 1966 العلامة الفارقة في هذا التطور، مؤكدة ان هناك أزمة نظام وليس أزمة مصرف أو مصارف فحسب.
كمال جنبلاط.. الانذار المبكر
وفي الواقع فإن حرب 1967، بدأت تترك تأثيراتها الكبيرة على لبنان، وبالتالي على عهد الرئيس شارل حلو الذي لم يعد عهداً سهلاً وهادئاً، ويقول الشهيد كمال جنبلاط في هذا الصدد: «حيكت المؤامرة على لبنان. منذ العام 1967. ففي ذلك الوقت كان المصريون والسوريون قد خسروا الحرب. فظن من نسميهم هنا بالانعزاليين، بأن لحظة رفع الرأس قد آن أجلها وآن اوان إنشاء لبنان منفصل عن العالم العربي. وهكذا فقد جرى تنظيم اجتماع دعي إليه مثقفون ورهبان وسياسيون وشخصيات. بالإضافة إلى رؤساء الجمهوريات السابقين كشمعون وأضرابه. وإلى نواب وصحافيين. وكان هدف هذا الاجتماع هو تحليل حوادث عام 1967 ونتائجها بغرض تحديد خط سلوك جديد يأخذ بعين الاعتبار واقعة بروز إسرائيل بعد هذه الحرب كأقوى دولة في هذا الجزء من الشرق الأوسط. وكانت الهزيمة تقلص من مخاطر حدوث ردة فعل عربية وسورية بوجه خاص، معادية لنمو الانعزالية في لبنان. كان عبد الناصر قد تلقى هزيمة سياسية وعسكرية بحيث أصاب الشحوب صورته كداعية لفكرة الأمة العربية، وكرمز لحلم القومية العربية.
فقد كان عبد الناصر يمثل - ولا يزال - رئيساً وقائداً اسطورياً يُجسّد فكرة الصراع من أجل التحرر الوطني والاجتماعي لدى الجماهير العربية التي طال قهرها واحتباسها تحت الاحتلال العثماني والاستعمار أو الانتداب الفرنسي والانجليزي. وإن كان الانتداب الفرنسي أقل قمعاً وقهراً من نظيره الآخر بالنسبة إلى بعض بلدان المشرق. وكان تقدير الانعزاليين ان الساعة قد ازفت للتخلص من التيار القومي العربي الذي لم يقبلوا به الا كحل أخير او كتسوية في العام 1943، إبان الصراع من أجل استقلال لبنان - ولزيادة تأكيد الطابع الخاص بلبنان، كبلد لا صفة له ولا ولاء يربطه، إلا ذلك الذي يصل بينه وبين أرضه وحدها».
يتابع كمال جنبلاط: «غير ان حرب رمضان، أو حرب يوم الغفران التي وقعت في تشرين الأوّل 1973 دفعتهم إلى التروي، ذلك انه على الرغم من الاخفاقات المحدودة (كالتراجع البسيط في جبهة الجولان. والثغرة الإسرائيلية في الدفرسوار)، فإنه جرى كذلك احتلال خاطف لخط الدفاع الإسرائيلي بارليف. كما ان المصريين والسوريين قد احسنوا القتال. إذاً فإن المعنويات كانت عالية نسبياً. كما كانت الحرب انتصاراً معنوياً حقيقياً للعرب الذين يعتقدون بأنه لولا المعونة الأميركية الضخمة التي نالتها إسرائيل. فإنها كانت ستمنى بهزيمة ساحقة، فقد نشرت سوريا على الخصوص قوة مسلحة كبرى، 2000 دبابة رقم لا تقوى على تصوره مخيلة أولئك الذين يخشون سوريا ويخافون نفوذها في لبنان ويرتاعون من التوسعية السورية. عنينا بهم الانعزاليين. وقد افزعهم التحالف السوري المصري الجديد الذي رسخه الكفاح المشترك. ذلك ان سوريا تبدو لهؤلاء اللبنانيين المعادين للعرب «كدولة عظمى» صغيرة بحيث ان هزيمة عام 1967 طويت في ملف النسيان».
ويقول: «وكان لا بدّ من تدارك ما كان يسمونه «الخطر السوري» (والذي كانت صحيفة «النهار» في تلك الحقبة تردّد اصداءه). ومن هنا. فقد عقد اجتماع جديد شارك فيه الرئيس شارل حلو. ذلك الرئيس الذي لم يسلم، على الرغم من سعة ثقافته. من التشويش والغموض. ولست ادري ما الذي جذبه. وهو الرجل المثقف الذي يدعي لنفسه سعة الرؤيا. إلى هذا المعمعان الجديد، إلا انه لا بدّ من محاذرة المثقفين الخُلُص أبداً. لعل عملية التهجين العربية - اللبنانية لم تكتمل فيه ولم تتجسّد كفكرة دافعة. فالمثقف هو أيضاً عُرضة للخوف. وكثير من المثقفين اودى بهم هذا الخوف، أو هذا التطير الخادع الذي لا محل له، والذي لا ينفك عن الانتشار. فقد انتهى بهم الأمر إلى ان أصبحوا أعداء كل تطوّر على الصعيد القومي والاجتماعي والاقتصادي، ضللتهم المفاهيم الخاطئة أو المشوهة على الاسلام والعروبة. بحيث جرفهم التيار الغالب معه.
إذاً، فقد صار اتخاذ قرار بشأن المؤامرة يزداد اقناعاً وتوجهاً نحو الحسم. في هذه الاجتماعات المتكررة التي كان يعقدها أولئك الأشخاص الذين يمثلون سلطة التقرير. وكان قد سبق ذلك اتصالات مع إسرائيل والاميركيين. وأوروبا جرت من خلالها محادثات في جو من السرية المطلقة وتقرر فيها ان العرب باتوا أكثر قوة. ولذلك فإنه لا بدّ من تدعيم الجيش اللبناني وتزويده بأسلحة جديدة. أي «بما يكفي الصمود امام غزو سوري بضعة أيام». الوقت الضروري الكافي لحضور فرق نجدة من الولايات المتحدة أو من الغرب».
خلال الحقبة بين 1968 و1970 كان لبنان على موعد مع تطورات كبيرة وهامة، كان أبرزها ان الشغل الشاغل للاوساط السياسية اللبنانية والدولة أصبح الوجود الفلسطيني المسلح وارتفاع وتيرة الاعتداءات الإسرائيلية التي توجت في 28/12/1968 بقيام قوة كوماندوس صهيونية محمولة بالطوافات الحربية بغارة على مطار بيروت الدولي ونسفوا 13 طائرة مدنية هي كامل الأسطول الجوي اللبناني الرابض في حينه على ارض المطار.
لبنان على حافة الهاوية
وبشكل عام، فإن هزيمة 1967 وبروز المقاومة الفلسطينية وتحول الحركات القومية والثورية نحو الراديكالية واتخاذها لبنان مركزاً لنشاطها. مما جعل الوحدة الوطنية المرتكزة على التوازن بين العروبية والكيانية، وبين المصالح الفئوية والطائفية لم يعد باستطاعتها الصمود امام ردود فعل الأجيال العربية واللبنانية امام هزيمة 1967، وترجمت إحدى ردّات الفعل عام 1968 بقيام ما سمي بالحلف الثلاثي، الذي ضم الأحزاب المسيحية (الكتائب، الوطنيون الأحرار، والكتلة الوطنية) الذي حقق نتائج هامة في الانتخابات النيابية في ذلك العام.
وكما كان متعذراً جمع اللبنانيين حول قرار إطلاق حرية العمل الفدائي، كان متعذراً جمعهم حول قرار منعه الذي كان بالتأكيد يحظى بأي دعم عربي، إلى ان حصلت احداث 23 نيسان 1969 حينما انطلقت في بيروت تظاهرة للدفاع عن المقاومة. فجرى التصدّي لها وسقط عدد من الجرحى والقتلى، مما فرض على الحكومة التي كان يرأسها الرئيس رشيد كرامي الاستقالة، بعد ان اقيل العميد اسكندر غانم قائد موقع بيروت بتهمة مجابهة التظاهرة دون أوامر من الحكومة، فظلت البلاد 9 أشهر في ظل حكومة تصريف الأعمال، إلى ان تمّ توقيع اتفاق القاهرة الذي اقره مجلس النواب دون ان يطلع على تفاصيله.
في هذه الأجواء جرت انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1970 والتي أسفرت عن فوز النائب سليمان فرنجية بفارق صوت واحد عن إلياس سركيس (50 مقابل 49).
بدأ عهد الرئيس سليمان فرنجية، وكأنه ايذان بولادة مرحلة جديدة وواعدة، وبمحاولات إصلاحية فطغت في المرحلة الأولى شعار «الثورة من فوق» وحكومة الشباب والمجاميع الوزارية، مشروع مرسوم 1943، للحد من الاستيراد، فتح ملفات المكتب الثاني، فأحبطت السياسة الاقتصادية - الاجتماعية للعهد، واستخدمت سلاح الإضراب ضد مرسوم 1943.
كما اجهضت محاولات وزير الصحة الدكتور اميل بيطار لاجراء إصلاحات نوعية على السياسة الدوائية والاستشفائية، فآثر ترك الوزارة.
وما يمكن تأكيده ان تطورات دراماتيكية حادّة أخذ يشهدها لبنان، وكل المؤشرات كانت تدل على ان لبنان يدخل مرحلة جديدة من التأزم، مع حصول سلسلة من التطورات العربية السلبية.
حدة الاستقطاب السياسي في عهد الرئيس فرنجية بلغت ذروتها، ففي مقابل الاستقطاب اليساري والديمقراطي الوطني الحاد شهد البلد استقطاباً يمينياً حاداً. مقابل ظهور التجمعات الديمقراطية (الحزب الديمقراطي، نادي 22 تشرين الثاني، زيادة وزن الشيوعيين.. التيارات المسيحية في الكنيسة إلخ...).
سقطت المواقع الليبرالية في حزب الكتائب، واخليت الساحة لتصاعد وتيرة التعبئة الطائفية، وهكذا أصبح البلد على برميل بارود، ينتظر شرارة، ليندلع اللهيب الذي انتشر بشكل واسع منذ 13 نيسان 1975.. وتوقف مع اتفاق الطائف عام 1989.