في خضم التطورات التي رافقت اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل تركز الاهتمام على انتخاب خلف للرئيس الراحل، وخصوصاً ان أقل من عشرة أيام كانت تفصل عن نهاية ولاية الرئيس سركيس الذي رفض أي شكل من اشكال التمديد بالرغم من تمنيات جهات محلية وإقليمية ودولية عليه بذلك. وأول إعلان للترشيح لانتخابات رئاسة الجمهورية كان إعلان حزب الكتائب عن ترشيح النائب أمين الجميل اثر اغتيال الرئيس المنتخب. ويتحدث كريم بقرادوني عن كيفية هذا الترشيح فيقول: «في تلك الليلة الحزينة - ليلة اغتيال بشير - صعد بعض أعضاء المكتب السياسي لحزب الكتائب إلى منزل رئيسه بيار الجميل في بكفيا، وما ان فاتحوه برغبتهم في ترشيح أمين حتى انتفض قائلاً: «(نحن بيت الجميل مش معمولين تنعمل رؤساء، انا حذّرت بشير من مغبة ترشيحه، والآن احذركم من مغبة ترشيح أمين)، وفهم العارفون بحقيقة بيار الجميل مقصده، فدعوا إلى اجتماع للمكتب السياسي في غيابه.
في اليوم التالي، تقرر ترشيح أمين الجميل بالإجماع. ومنذ تلك الفترة، كان بيار الجميل، يردد كلما اختلف أحد منا مع امين: «انا لم ارشحه، انتم الذين رشحتموه، ووضعتموه على الصليب فتحملوا مسؤوليتكم».
في 17 أيلول 1982، أعلن المجلس السياسي الأعلى لحزب الوطنيين الأحرار ترشيح الرئيس كميل شمعون للرئاسة، وبهذا انحصرت معركة الرئاسة هذه المرة بين الرئيس شمعون والنائب أمين الجميل.
ويحدد كريم بقرادوني الأسباب التي دعت حزب الكتائب لترشيح أمين الجميل، فيؤكد انها كانت رغبة من الحزب بالاحتفاظ بمركز الرئاسة، ورغبة في إيجاد البديل للحيلولة دون الفراغ الدستوري لأن ولاية الرئيس سركيس كانت ستنتهي خلال أسبوع.
تعددت الاتصالات واللقاءات السرية والعلنية بين كل الأطراف، وبدأت المداخلات الخارجية في هذا الاستحقاق تلعب دورها.. وسرعان ما بدأ اللاعبون الكبار يحددون مواقفهم، على حدّ تعبير كريم بقرادوني الذي يقول: «في 16 أيلول صعد وزير الدفاع الإسرائيلي ارييل شارون إلى بكفيا لتقديم التعازي بوفاة بشير ولأخذ الضمنات بأن أمين ملتزم بسياسة بشير. واختلى شارون مع بيار وأمين الجميل اللذين اكدا له انهما اطلعا على محضر آخر اجتماع بينه وبين بشير، وانهما يلتزمان بمضمونه. وقد أدّت هذه الضمانات إلى اتخاذ موقف سريع من الحكومة الإسرائيلية بتأييد أمين. وقرّ الرأي الأميركي على دعم الجميل بدلاً من شمعون بعد ان أجرى فيليب حبيب اتصالات مكثفة مع مختلف الأطراف المعنية، وقرّر الرئيس رونالد ريغان إيفاد القوات المتعددة الجنسية إلى بيروت مجدداً وتمسكه بالمبادرة الأميركية لحل أزمة لبنان والشرق الأوسط.
«وتحركت فرنسا من جهتها، واوفدت مبعوثاً اقترح التمديد للرئيس سركيس ولو لفترة عامين، وتأليف حكومة اتحاد وطني، لكن سركيس رفض هذا العرض بحزم، وأبلغ الجانب الفرنسي انه لن يبقى دقيقة واحدة بعد انتهاء ولايته في 23 أيلول».
اما بالنسبة لسوريا، فقد تصرفت إزاء هذا الاستحقاق بكثير من المرونة والروية، فلم تعلن عن تأييدها لهذا المرشح أو ذاك، وإن كانت قد أبقت الأبواب مفتوحة امام أمين الجميل دون ان تعلن عن ذلك، «وحتى لا تتحمل وزر الموافقة عليه».
اما على الصعيد الإسلامي، فإن أوّل المبادرين كان الرئيس صائب سلام الذي أعلن باسم التجمع الإسلامي عن تأييده لأمين الجميل، وكذلك فعل رئيس مجلس النواب كامل الأسعد وكتلته النيابية.. وهكذا بدا ان النائب أمين الجميل هو الأوفر حظاً للوصول الى سدة رئاسة الجمهورية.
في يوم 18 أيلول، عين رئيس مجلس النواب كامل الأسعد يوم 21/9/1982 موعداً لانتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس المنتخب بشير الجميل. وذلك قبل يومين من انتهاء ولاية الرئيس الياس سركيس.
في العشرين من أيلول، أعلن الرئيس كميل شمعون عزوفه عن ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية وأوضح ان سبب عزوفه هو «ما سوف يفرض على من يشغل رئاسة الجمهورية من صلح منفرد يحرم لبنان من كل تعاون مع دول الجامعة العربية ويجعله معزولاً عن الشرق العربي».
في الحادي والعشرين من أيلول 1982 اجتمع مجلس النواب في المدرسة الحربية في الفياضية، وانتخب في الدورة الأولى، باكثرية 77 صوتاً من أجل 80 نائباً حضروا الجلسة، النائب أمين الجميل رئيساً للجمهورية.
لقد وصل أمين الجميل إلى المركز الأوّل في لبنان، فهو تماماً كما يصفه كريم بقرادوني: «لقد حالف الحظ أمين منذ بداية حياته، وكان قدره ان ينجح حيث يفشل الآخرون، ورث النيابة عن خاله موريس الجميل، الموسوعة الفكرية المشدودة إلى التجديد والعصرنة والذي توفي قبل اوانه في عام 1970، فخلفه أمين نائباً عن المتن الشمالي عن عمر يناهز الثامنة والعشرين، وكان أصغر النواب سناً، وورث الزعامة عن أبيه بيار، الذي أسس أكبر الأحزاب اللبنانية واقتطع في أمين مكانة مرموقة، وحول منطقة المتن إلى امارة خاصة به، وورث اخيراً الرئاسة في 21 أيلول 1982 عن شقيقه بشير الذي اغتيل في 14 أيلول 1982 رئيساً للجمهورية، فخلفه وهو في الأربعين من العمر، فصار أصغر رئيس جمهورية يحكم».
لقد تحالف أمين الجميل والحظ دائماً، حتى ان بقرادوني ينقل عنه «يوم 14 ظهراً، كان العالم يعتقد انني انتهيت، وبعد الظهر من اليوم ذاته صرت رئيساً للجمهورية»، بدأ الرئيس الجميل ولايته وهو يتمتع بدعم محلي واقليمي ودولي قلّ نظيره، لكنه آثر من كل هذا، الدعم الأميركي، معتقداً ان مسؤولية الحل تقع على عاتق الأميركيين فقط، وانهم وحدهم القادرون على ذلك. ويعكس كريم بقرادوني هذا الواقع فيقول: «سرعان ما وقع أمين في الوهج الأميركي، واعتقد ان بمقدوره ان لا يقدم على خيار إسرائيلي رداً على سياسة شقيقه، ولا على خيار سوريا رداً على سياسة الياس سركيس، بل على خيار أميركي يتخطى القدرتين: السورية والاسرائيلية معاً، وراح يتصرف وكأنه الخيار الأميركي في الشرق الأوسط، وأخذ يلزم الأميركيين مسؤولية ايجاد الحل، وتبنى طبيعياً الاقتراح الأميركي ببدء المفاوضات الاسرائيلية - اللبنانية بمعزل عن سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية».
وإذا كان الرئيس الجميل قد طرح في خطاب العهد بعد تسلمه مهماته الدستورية الخطوط العريضة لسياسته الخارجية بقوله: «اننا نزمع ان نوطد علاقات صداقة ومودة مع العالم بأسره، بدءاً بالاقربين اخواننا العرب، وانتماء لبنان إلى محيطه العربي ليس شرطاً عليناً، بل خيار حر يحدده واقعه ومصالحه ودوره الطليعي وعضويته في جامعة الدول العربية...» الا انه انطلق في المفاوضات مع إسرائيل دون ان يعير أي اهتمام للشأن العربي، وخصوصاً لسوريا، معتبراً ان واشنطن هي ضمانته إزاء إسرائيل وفي مواجهة سوريا، مع ان كل الوقائع على مدى الصراع العربي - الإسرائيلي، أكدت ان الولايات المتحدة كانت على الدوام إلى جانب إسرائيل، وبالتالي فهي لن تفضل لبنان على إسرائيل، وإن كانت قد تجاوبت مع الرغبة اللبنانية، في العمل لتذليل العقبات للبدء بالمفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية. وقد أصرت الحكومة اللبنانية على ان تكون ذات طابع عسكري، فيما أصرت تل أبيب على ان تكون ذات طابع سياسي، وأن تجري في القدس المحتلة على مستوى وزراء الخارجية، معتبرة ان اتفاقية الهدنة لاغية ومطالبة بتوقيع اتفاقية سلام.
هنا افلح ضغط واشنطن على تل أبيب لجعلها تقبل بحل وسط فاتفق على ان تبدأ الاجتماعات في خلدة وكريات شمونة على مستوى موظفين من وزارتي الخارجية والدفاع في لبنان وإسرائيل وبمشاركة من واشنطن التي ارسلت فيليب حبيب وموريس درايبر كمبعوثين للرئيس رونالد ريغان.
(يتبع)