بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 تشرين الثاني 2018 12:00ص من حكايا لبنان السياسية المنسية كيف استقال بشارة الخوري ولماذا كان «الحق على الطليان»؟

الرئيس بشارة الخوري الرئيس بشارة الخوري
حجم الخط
لم تقترب السنة الثالثة من الولاية الممدة للرئيس بشارة الخوري من نهايتها حتى فرض عليه الاستقالة التي لعبت بها سلسلة عوامل داخلية وخارجية.
فداخلياً، كما يقول يوسف سالم «قويت شوكة المعارضة، وبدأت الصحف تشن حملات عنيفة على العهد والحكومة، وعلى يد العهد نفسه، وأخذ الرئيس وحكومته يقابلون هذه الحملات بإحالة الصحافيين على المحاكمة وإرسال بعضهم إلى السجن حيناً وتعطيل الصحف أحياناً ... وكم الأفواه في لبنان، وتحطيم الأقلام، وكبت الحريات يولد الانفجار. وزاد الطين بلة، بطانة فاسدة احاطت بالرئيس وضعفه امامها واستسلامه إلى شهواتها، ولم تكن هذه البطانة بعيدة عن الرئيس، بل كانت بمعظمها من لحمه ودمه.
ووجد السلطان سليم - شقيق الرئيس - في بعض الموظفين أدوات طيعة يأمرها فتجيب عابثة بالانظمة والقوانين ومبادئ الأخلاق، حتى ضجت البلاد وارتفعت الشكوى وعم السخط على الدولة وجميع الطبقات.
وزاد في الضغط على الرئيس، إضافة إلى العوامل الداخلية، ان السفارة البريطانية بدأت تتدخل ضده بشكل سافر، لأنها على حدّ تعبير الرئيس شارل حلو وجدت من الأفضل لمصالحها الاعتماد على المعارض بدل الاعتماد على من هم في الحكم والسلطة، وهي استراتيجية مألوفة لدى دول أجنبية عديدة قوامها عقد تحالف مع المعارضة لإنهاك الحكم القائم.
بأي حال، كما يقول يوسف سالم «تدهور الوضع السياسي في البلاد وازدادت الحالة سوءاً على سوء، وانتقلت المعارضة من التلميح إلى التصريح، وراحت تطالب جهاراً باستقالة رئيس الجمهورية، وصار الشيخ بشارة الهدف الذي يتلقى السهام، ولم تبقَ له دروع تقيه، وصار الأقطاب السياسيون الذين يأتي بهم رئيس الجمهورية إلى الحكم ويدعوهم إليه يخشون أن يصيبهم رشاش من النقمة المنصبة على رئيس الجمهورية. فصاروا وهم متربعون في كرسي الحكم يتودَّدون إلى المعارضة، وينتهي بهم الأمر ان يشتركوا بأنفسهم مع المعارضة في المعركة الناشبة لإسقاط الشيخ بشارة.
يضيف يوسف سالم: «شعر رؤساء الحكومات جميعاً ان سفينة الحكم صارت على وشك الغرق، فراحوا يغادرونها حتى لا يغرقوا معها ومع الرئيس». وهكذا استقالت حكومة عبدالله اليافي في شهر شباط 1952 بعد ان خلفت وزارة حسين العويني، ولم تبقَ في الحكم أكثر من 8 أشهر، وفي 12 شباط 1952، جاء رئيس الجمهورية بوزارة سامي الصلح الذي لم يكن بعيداً عن المعارضة فانطلقت رصاصة الرحمة على العهد كما يقول الرئيس صبري حمادة «حينما حضر الصلح إلى المجلس بعضمة ورقتيه الشهريتين»، حيث سحب من جيبه الورقة التي فيها هجوم على العهد، خاتماً بالقول كما جاء في محضر جلسة مجلس النواب آنئذ «لن أطرح الثقة لأنني لا أريد الثقة منكم، وأنا ماضٍ لأقدم استقالتي إلى فخامة رئيس الجمهورية . ولم يحضر الصلح إلى القصر الجمهوري ليقدم استقالته، كما يقول الرئيس بشارة الخوري، بل مضى إلى بيته ولحقه المعارضون» فأصدر آنئذ رئيس الجمهورية مرسومين، أحدهما ينص على قبول استقالة حكومة الصلح والثاني يقضي بتأليف حكومة ثلاثية قوامها: ناظم عكاري، باسيل طراد وموسى مبارك بعد ذلك بدأ بالاستشارات النيابية التي اختار على أثرها الرئيس صائب سلام لتشكيل الحكومة في 12 أيلول 1952 لكنه لم يوفق، فاستقال ناظم عكاري، من رئاسة الحكومة وعين سلام خلفاً له مع استبعاد الوزيرين الآخرين، وفي يومي 15 و16 أيلول دعت المعارضة إلى الإضراب العام.
وقد تصاعدت الضغوطات الاستعمارية على المنطقة بما فيها لبنان وفي 25 أيار 1950 صدر البيان الثلاثي الأميركي - البريطاني - الفرنسي يؤكد اتفاق الدول الثلاث على التدخل المشترك في الشرق الأوسط بحجة المحافظة على الأوضاع وتأمين الاستقرار، وتزويد الدول العربية بالسلاح، شرط عدم استعماله ضد بعضها البعض وبين هذه الدول بالطبع كانت إسرائيل.
«وتبع هذا البيان ظهور (الدفاع المشترك) الذي كان المطلوب من الدول العربية الانضمام إليه. ورفض الشيخ بشارة الانضمام إلى هذا الحلف، الأمر الذي أدى إلى خلافه مع السياسة البريطانية، ومن ثم الى نشاط العملاء البريطانيين في تأليب الرأي العام اللبناني عليه، وبالتالي التمهيد لإسقاط عهده».
لقد ظل الرئيس بشارة الخوري على الدوام يرفض ربط لبنان بأحلاف أجنبية لأنها تعارض روح الميثاق الوطني الذي كان احد أهم أعمدة وفاق اللبنانيين ومع انتصار ثورة 22 يوليو الناصرية في مصر عام 1952 ازدادت الضغوط الاستعمارية على المنطقة من جهة وازداد صراع الدول الكبرى بين بعضها البعض من جهة أخرى، لفرض سيطرتها، خصوصاً الصراع الأميركي - البريطاني، حيث ان واشنطن صارت ترمي للحلول محل النفوذ البريطاني، فيما بريطانيا تسعى لسد المنافذ بشتى الوسائل والسبل امام الرياح الأميركية العاصفة، ويقول الرئيس صبري حمادة في هذا الصدد «الشهادة لله، وقد أصبح الشيخ بشارة في ذمته تعالى، انه أبدى صموداً عجيباً وترفعاً غريباً بوجه الاغراء والأغواء، ولم تلن شوكة معارضته ربط لبنان بمعاهدة كمعاهدة الدفاع المشترك مثلاً، وأي من الارتباطات الأخرى، حتى بعد ان تحول الاغراء إلى تهديد وانقلب الاغواء إلى منازلة دولة كبيرة كانت وما تزال قرصانة الضمائر والذمم».
الضغوطات الخارجية وسلسلة من العوامل الداخلية المتناقضة والمتضادة التي تحالفت ضد الرئيس بشارة الخوري جعلته لا يكمل ولايته الثانية.. ويمكن اختصار هذه العوامل:
- التدخل السافر للسفارة البريطانية التي «وجدت من الأفضل لمصالحها الاعتماد على المعارضة بدل الاعتماد على من هم في الحكم والسلطة، وهي استراتيجية مألوفة لدى دول أجنبية عديدة، قوامها تحالف مع المعارضة لإنهاك الحكم وإيصال المعارضة من ثم لتسلم قمّة السلطة».
- عرض وزارة الخارجية على شخصية من وزن شارل مالك، ذي العلاقات والروابط الحميمة جداً مع واشنطن لا مع لندن. وهذا ما جعل بريطانيا تسرع في العمل لإزاحة الرئيس بشارة الخوري بشتى الوسائل والسبل وقد كان الرئيس بشارة الخوري الذي احتفظ رغم هزيمته، بروح النكتة. يلمح إلى الانكليز ويقول: «الحق على الطليان» حتى انها صارت عنواناً لاحدى مسرحيات شوشو في نهاية ستينات القرن الماضي، وهكذا شاعت هذه العبارة وهي تردّد كثيراً عند توجيه نقد أو شكوى ضد إحدى الدول الأجنبية المتدخلة في الشؤون اللبنانية.
- تكتل قوى وشخصيات سياسية متناقضة الميول والمصالح، ولكل منها حساباتها ضد الرئيس بشارة الخوري.
وكما يقول الرئيس صبري حمادة: لم يُعكّر صفو أيام حكم الرئيس بشارة الخوري بعكس ما قيل واشيع سوى (الطليان) الذين بدأوا يكيدون له حتى قبل ولايته الثانية.. ولم يجرؤ أحد على ان يوجه له أي تهمة فانقض مريدو (الطليان) على أفراد اسرته ووصموهم بشتى العيوب.
امام هذه التطورات، وكما يقول الرئيس صبري حمادة ولما لم يعد بدّ من القوة لقمع حركة الشعب، آثر الشيخ الرئيس التخلي عن سفك الدماء، فأبلغ الأكثرية النيابية المجتمعة في منزله في عاليه، «لقد رأيت ان استقيل تأميناً للمصلحة العامة» وسلم الدستور لقائد الجيش اللواء فؤاد شهاب، بعد ان كلفه رئاسة الحكومة المشكلة من ناظم عكاوي وباسيل طراد.
فتحت استقالة الشيخ بشارة الخوري باب خلافته وكما يقول الرئيس شارل حلو كان «على الساحة مرشحان: كميل شمعون وحميد فرنجية»، وهما نائبان لهما أنصار في صفوف الأكثرية والمعارضة، وكان هناك أيضاً مرشّح جديد على الساحة هو الجنرال فؤاد شهاب، الذي عينه الرئيس بشارة الخوري رئيساً للحكومة المؤقتة التي ستتولى الانتخابات الرئاسية وتصريف الأعمال العادية، واقترح حميد فرنجية الذي لم يكن ضامناً فوزه ترشيح الجنرال فؤاد شهاب لكن نواب بيروت قرروا لاعتبارات شخصية وطنية ان يكونوا كتلة واحدة تدعم مرشحاً واحداً، لن يكون الجنرال شهاب، ولا ننسى ان عدد نواب بيروت 13 وهم يمثلون جميع الطوائف وكانوا كلهم تقريباً اما وزراء واما رؤساء حكومات، وكان المرشح الذي اختاروه هو كميل شمعون الذي ضمن فوزه المحتم».
ويقول يوسف سالم: لكن كميل شمعون سياسي داهية، خبير بأساليب السياسية «المداورات الانتخابية، فشحذ أسلحته كلها للمعركة المحتدمة. وأول ما فعله ان استنجد بأصدقائه الانكليز الذين وثق بهم أثناء توليه سفارة لبنان في لندن، ولم يخيّب الانكليز ظنه فأنجدوه، والصراع الانكليزي - الفرنسي على النفوذ في لبنان وسوريا لايزال محتدماً وإن صار صراعاً وراء الكواليس.
يتابع يوسف سالم سرد روايته فيقول: «وتذكر شمعون انه قبل استقالة الشيخ بشارة الخوري بأسبوع، قام برحلة صيد الى سوريا واجتمع برئيس دولتها أديب الشيشكلي، وادرك انه وجد في الشيشكلي عوناً له على فريق من اللبنانيين يتأثر بسياسة سوريا فاستعان به فأعانه الرئيس السوري، وإذ بكميل شمعون بين ليلة وضحاها، يجتذب إلى صفه نواب بيروت وعدداً لا يستهان به من نواب الشمال، بفضل الضغط السياسي من جانب سوريا، وتدخل السفير البريطاني في بيروت.
وبدا ذلك واضحا للعيان حتى ان أصدقاء حميد فرنجية وزملاءه في جريدة «لوجور» الصادرة بالفرنسية، من امثال حبيب أبو شهلا، وشارل حلو، وهنري فرعون، وموسى دي فريج الذين كانوا دعامته الكبرى وقادة معركته، تخلوا عنه، لا حباً بشمعون بل تحت الضغط السافر الذي مارسه عليهم السفير البريطاني عبر ميشال شيحا».
وإذ يُؤكّد يوسف سالم انه استمر على تأييده لحميد فرنجية يقول انه فكر في الموقف كثيرا وتبادل الآراء مع اصدقائه، وقلبوا الأمور على شتى وجوهها فتبين لهم انه إذا بقيت الحالة على هذا النحو فسينتخب بضغط أجنبي، فبادر إلى الاتصال بصديقه حميد فرنجية باسطاً له الأمور، ثم قاموا باحصاء المؤيدين لفرنجية والمؤيدين لشمعون فتبين ان أنصار الأخير يزيدون باثنين أو ثلاث عن الأوّل.
وهنا يقول يوسف سالم انه توجه إلى فرنجية، بالسؤال:
هل ترضى، أنت حميد فرنجية، بأن ينتخب رئيس الجمهورية في هذا الجو الضاغط!  فرد فرنجية: لا-.. ماذا نفعل؟
فقال يوسف سالم «ارى ان تجتمع بكميل شمعون وتدرسا الموقف معا، ويحصي كل منكما عدداً من مؤيديه من النواب، ومن كان عدد مؤيديه أقل ينسحب للآخر وينتخب الرئيس أئنذ بالإجماع، وبذلك نزيل عنا وصمة تدخل الأجنبي، وندحض قول القائلين بأن الأجنبي هو الذي فرض رئيس الدولة على اللبنانيين».
يتابع يوسف سالم: «لم يتردد حميد، بل وافق على الفور، فذهبت في الحال إلى شمعون وعرضت عليه الاقتراح، ثم دعوته إلى الاجتماع بحميد في منزلي.. وبعد ساعات قليلة كان المرشحان المتنافسان، وجهاً لوجه في خلوة لم يحضرها سواي.. ويدرسان الموقف من جميع وجوهه، وكان قد تجمع في منزلي عدد كبير من أنصار كلا المرشحين ومن الصحافيين، ورجال السياسة... وفجأة وقف حميد فرنجية وقال لكميل شمعون مبروك.
ثم صافحه وانفتح الباب على مصراعيه، فضجت الدار بالتصفيق والهتاف.. لقد كان الاجتماع بين فرنجية وشمعون ودياً.. على الرغم من ان نتائجه تركت مرارة في بعض النفوس، وبديهي انها اسعدت نفوساً أخرى، ترى انه إذا وصل كميل نمر شمعون إلى الرئاسة لست  سنوات ستكون حافلة.
في الثاني والعشرين من أيلول سنة 1952 تمّ انتخاب النائب كميل شمعون للجمهورية فألقى على الأثر خطاباً كان، يقول الرئيس شارل حلو، «بعيد المرامي قسا في بعض فقراته على سلفه الذي طالما كان ظلاً له، مما يساعده في كسب ود النواب المحالفين للشيخ بشارة الخوري».
واذا كان رئيس مجلس النواب الراحل صبري حمادة قد بشّر والد زوجته رئيس مجلس النواب آنئذ أحمد الأسعد، ومن مال إلى صف انتخاب الرئيس شمعون، بأنهم «أول من سيتعرض لما يعده كميل شمعون من مأزق للزعماء التقليديين»، فإن يوسف سالم يُؤكّد ذلك بقوله: «لقد تنكر الرئيس شمعون، وهو يدشن عهده لجميع الأصدقاء والأقطاب والسياسيين الذين مكنوه من الوصول إلى سدة الرئاسة. تنكر لحميد فرنجية، أحمد الأسعد، حبيب أبو شهلا، عبد الله اليافي وغيرهم الكثيرين».