بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 كانون الأول 2018 12:00ص من حكايات لبنان السياسية «الميراج» تطيح عام 1970 بالياس سركيس لصالح سليمان فرنجية

الرئيس الياس سركيس الرئيس الياس سركيس
حجم الخط
حملت السنتان الأخيرتان من عهد الرئيس شارل حلو تطورات كبرى كانت كلها تصب ضد عودة الشهابية أبرزها:
1- «تركيز المقاومة الفلسطينية والأحزاب الثورية أو القومية على معارضة الشهابية في سياستها العربية المتعاطفة مع جمال عبد الناصر، وغير المعلنة العداء للغرب، وبنوع خاص، على التنديد بالمكتب الثاني في الجيش اللبناني والهجوم القاسي عليه، بسبب مراقبته الشديدة للمخيمات الفلسطينية ومحاولات منع تسليحها وإقامة التدريبات العسكرية فيها ومنع انطلاق عمليات المقاومة ضد إسرائيل عبر الحدود اللبنانية في الجنوب».
2 - تركيز المعارضة المسيحية الملتقية في (الحلف الثلاثي) على الاخطار الثلاثة التي تُهدّد لبنان وهي في نظرها: «الشيوعية، الشهابية، والمقاومة الفلسطينية».
وهكذا وجد الشهابيون أنفسهم مستهدفين من قبل أنواع من المعارضات:
- مارونية يقودها الحلف الثلاثي.
- تحالفات إسلامية - مسيحية مؤلفة من الزعماء السياسيين الذي اقصوا عن الحكم ويرغبون في العودة إليه.
- اختيار المقاومة الفلسطينية لبنان قاعدة أساسية، رئيسية لانطلاقتها، خصوصاً بعد أيلول الأسود في الأردن.
كل ذلك كان من العوامل التي ضربت الشهابية سياسياً، وجد الجيش اللبناني والمكتب الثاني نفسه بين شاقوفين، فإذا هم تركوا المقاومة الفلسطينية المتحالفة مع الأحزاب اليسارية، تسلح الفلسطينيين وتقوم بعمليات ضد إسرائيل، تعرضوا لمزيد من نقمة الزعماء والرأي العام المسيحي، إضافة الي تلقي ضربات إسرائيل، (كضربة المطار مثلاً)... كما ان محاولة الجيش ضبط الأمن في المخيمات الفلسطينية ومنع القيادات والأحزاب الفلسطينية من تدريب اللاجئين وتسليحهم جعلته عُرضة لنقمة المسلمين والأحزاب التقدمية والرأي العام العربي».
وسط هذه العوامل المستجدة على الساحة اللبنانية في السنتين الأخيرتين في عهد الرئيس شارل حلو، كان التحضير لمعركة الرئيس الخلف قد بدأت.. ليطرأ عليه عامل جديد هو قضية ما اسمي بطائرة الميراج، حيث أتهمت المخابرات السوفياتية: الـ «كا.جي.بي» بمحاولة اختطاف طائرة حربية لبنانية لمعرفة اسرارها، بعد الخسائر الفادحة التي مُنيت بها طائرات «الميغ» في الحرب العربية - الإسرائيلية عام 1967. وإذ نفى السوفيات بشدة ان يكون لديهم خطط لخطف طائرة الميراج، استنكر كمال جنبلاط والأحزاب اليسارية هذه التهمة، ووصفوا بأنَّها من «بنات خيال أجهزة الدكتيلو» وهي من الصفات التي أخذت تطلق على المكتب الثاني.
ويسرد غابي لحود رواية عن هذه الحادثة، فيقول: «جاءنا الضابط محمود مطر ذات يوم، وهو طيّار ميراج في سلاح الجو اللبناني، وأفاد ان دبلوماسيين من السفارة السوفياتية اتصلوا به محاولين اقناعه بخطف طائرة من هذا الطراز»..
يضيف لحود: «جمعت ضباط الشعبة الثانية، في جلسة تحليل ورحنا نطرح الأسئلة ونناقشها للتثبت اولاً من جدية المحاولة. ففي عالم المخابرات، يُمكن ممارسة الخداع لإيقاع الأجهزة الأخرى لألف سبب وسبب وكان بيننا للوهلة الأولى من استبعد اقدام السوفيات على ذلك، فطرحت آراء كثيرة، فالسوفيات يقومون بتسليح الجيوش العربية بعد هزيمة 1967، وتحديداً الجيشين السوري والمصري، وإعادة التسليح تتركز على سلاح الجو، خصوصاً ان طائرةالميراج الفرنسية انزلت خسائر فادحة بطائرات الميغ السوفياتية في تلك الحرب، وسبق (لدولة عربية) ان طلبت أكثر من مرّة اطلاع طياريها على هذه الطائرة وطريقة عملها، ولكن القيادة العسكرية اللبنانية عارضت ذلك لأنَّه مخالف للشروط التي حصلنا بموجبها على الميراج من فرنسا، وتبين بنتيجة التحليل ان الأمر جدي والمحاولة لها مبرراتها المعقولة فاستاءت للأمر استياء شديداً. فقد كنا ندرك اننا نتعامل مع دولة كبرى هي الاتحاد السوفياتي، وهي إضافة إلى ذلك دولة صديقة للعرب وندرك ابعاد التسبب في أي أزمة علنية، وهنا واجهتنا مشكلة لو ذهبنا إلى السفير السوفياتي وروينا له ما يحصل لن يكتفي بالانكار بل سيتهمنا نحن بتلفيق تهمة ضد السوفيات خدمة للغرب أو الأميركيين، ونحن ليست لدينا أي أدلة قاطعة على التورط السوفياتي، وبدا واضحا ان الحصول على أدلة أمر جوهري».
وبعد ان يتحدث غابي لحود عن خطة كيفية اقلاع الطائرة وتأمين الأدلة وإحباط المحاولة يُؤكّد ان الضرر قد حصل وسيستمر، لأنَّ «الاحتواء كان مستحيلاً، انما حاولنا الحد منها قد الإمكان عن طريق كمال جنبلاط الذي كان مستاء جداً والذي قال: ان الاتحاد السوفياتي بلد صديق للعرب ولا يجوز ان نشرشحه على هذا النحو، واعتبر انه إذا كانت أسرار الميراج تخدم العرب فلماذا لا ندعهم يستفيدون منها، فلم يقتنع جنبلاط بكل الحجج، ولم يرد التوقف عند مجريات العمليات وكان ينظر اليها في اطارها السياسي الكبير واثر الحادث في علاقته بالشهابية وفي موقفه في انتخابات الرئاسة». وسط هذه الأجواء كانت البلاد تدخل في أجواء الاستحقاق الرئاسي عام 1970، وبالرغم من كل العوامل والأجواء غير المؤاتية للشهابيين، فإنَّ القوى الموالية لفؤاد شهاب في المجلس النيابي وفي الأوساط السياسية والإعلامية ظلت قوية ومتماسكة، وخصوصاً ان مرشّح الشهابيين البارز كان آنئذ هو الرئيس السابق فؤاد شهاب نفسه، لكن الرئيس شهاب رفض الترشيح للرئاسة رغم إلحاح المؤيدين لنهجه وحلفائه السياسيين كرشيد كرامي وصبري حمادة، وكمال جنبلاط وغيرهم.. ورغم ان ترشيحه وفوزه كان مؤكداً، فإنه أصدر في 4 آب 1970 وقبل أيام من موعد الانتخابات الرئاسية بياناً أعلن فيه عزوفه عن الترشيح للرئاسة.
«وكان على النواب النهجيين وحلقة القريبين جداً من الرئيس شهاب من عسكريين وسياسيين تقديم مرشّح شهابي آخر، بعد  فشلهم في إقناع شهاب بالترشيح، وكان بروز اسم الياس سركيس، حاكم مصرف لبنان ومدير عام رئاسة الجمهورية في عهد فؤاد شهاب والذي كان يعتبر ابناً روحياً له، نتيجة اختيار فؤاد شهاب له أولاً، لأنه كان مقتنعاً بكفاءته وخبرته وولائه للمبادئ والنهج الشهابي، لأنه كان لا يُخفي خيبته من اختياره الرئيس شارل حلو، خليفة له عام 1964 وخوفه من ان يصاب بخيبة أمل مع رئيس (سياسي) جديد، غير انه بذل جهوداً لإقناع الزعماء التقليديين لا سيما الكبار منهم: كصبري حمادة ورشيد كرامي وغيرهما.. بانتخاب «الموظف» الياس سركيس، كما تجند رئيس المكتب الثاني وضباطه، في خدمة المرشح الشهابي».
اما على صعيد معسكر المعارضة، فكان ان أعلن الرئيس كميل شمعون ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية، لكن سرعان ما اتفق المعارضون من حلف ثلاثي وتكتل وسط (كان يضم سليمان فرنجية، صائب سلام وكامل الاسعد)، ترشيحهم للنائب سليمان فرنجية..
اما فكرة ترشيح سليمان فرنجية للرئاسة، فقد جاءت حينما كان يلعب فرنجية طاولة الزهر مع الرئيس صائب سلام، الذي اغلق الطاولة، وفاجأ فرنجية بسؤاله ما رأيك بأن تكون أنت (أي فرنجية) مرشحنا للرئاسة.
يرد فرنجية: ومن يقنع كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده؟
هنا يتصل، الرئيس سلام بالنائب كاظم الخليل، ويحدثه بالأمر، فيطلب الخليل مهلة من الوقت، ليتصل بعدها بالرئيس سلام ويعلمه بموافقة شمعون الذي سيعمل لاقناع الجميل وإده.
وهكذا صارت الانتخابات الرئاسية محصورة بين مرشحين اثنين هما النائب سليمان فرنجية، وحاكم مصرف لبنان الياس سركيس، وبعد إعلان النائب كميل جنبلاط تأييده وجبهة النضال الوطني التي يتزعمها لفرنجية - شذ عن هذا التأييد النائبان معروف سعد وبهيج تقي الدين - لأن قضية الميراج كانت قد تركت تأثيرها مما جعل السوفيات يميلون إلى فرنجية، وبات واضحاً امام الشهابيين ان معركتهم ليست سهلة وان الفارق بين الفائز والخاسر لن يتعدى الصوت أو الصوتين، وقد «تبين لرئيس مجلس النواب صبري حمادة، ان الفارق بين سركيس وفرنجية لن يكون إلا صوتاً واحدا لمصلحة الياس سركيس، فكان ان تكثفت الاتصالات حيث تمكن النهجيون من إقناع أحد نواب الكتلة الوطنية بتأييد مرشحهم، وبعد اجراء الدورة الانتخابية الأولى، حيث لم يفز أحد من المرشحين بأكثرية الثلثين، علم العميد ريمون إده بما جرى مع أحد نوابه، فعمد في الدورة الثانية إلى إلقاء ورقتين في صندوق الاقتراع، فكان ان الغيت هذه الدورة، بعد ان تمكن إده من كشف النائب الذي تمّ اقناعه بانتخاب سركيس فأنَّبه على ذلك ورده إلى خانة النائب فرنجية، فيما تمكن الرئيس كميل شمعون من إقناع أحد نواب بعلبك - الهرمل من انتخاب سليمان فرنجية وتراوحت التقديرات في إقناع هذا النائب في مذاهب شتى.. وتردد كما روت بعض الصحف ان النائب كمال جنبلاط انتزع من يد عضو كتلة النائب فؤاد الطحيني ورقة كان هذا الأخير قد سجل عليها الياس سركيس واعطاه بدلاً منها ورقة عليها اسم سليمان فرنجية».
اسفرت نتيجة الاقتراع عن نيل النائب سليمان فرنجية 50 صوتاً مقابل 49 للياس سركيس، وهنا رفض الرئيس حمادة إعلان نجاح النائب سليمان فرنجية برئاسة الجمهورية، داعياً إلى إعادة الانتخاب من جديد وحجته في ذلك انه في الدورة الثالثة من الانتخابات يفترض بالمرشح الفوز بأكثرية نص عدد أعضاء المجلس النيابي زائد صوت واحد، ولما كان نصف عدد النواب هو 49.5 فإن الأكثرية تكون والحالة هذه نصف نائب وليس نائباً.
وامام إصرار الرئيس حمادة على موقفه حدثت حالة فوضى وهرج ومرج في مجلس النواب، انسحب بعدها رئيس المجلس إلى غرفة مكتبه رافضاً إعلان النتيجة، فكان ان اتصل النائب رينيه معوض بالرئيس شهاب ليعلمه بالاشكال القانوني الذي أثاره رئيس المجلس فطلب إليه بأن يدعو الرئيس حمادة لإعلان انتخاب النائب فرنجية رئيساً للجمهورية، وفعلاً، دخل الرئيس رشيد كرامي والنائب رينيه معوض إلى الرئيس حمادة وطلبا إليه إعلان نجاح فرنجية، وأكّد انه إذا أعاد الاقتراع فسيصوتان لمصلحة فرنجية.. وهنا دعا مكتب المجلس إلى اجتماع أعلن على اثره فوز النائب سليمان فرنجية برئاسة الجمهورية اللبنانية، ومنذ انتخابه كان الرئيس فرنجية يقول: «انه صوتي انا، كلما ذكره أحد النواب انه يدين له بانتخابه».
استقبل انتخاب الرئيس سليمان فرنجية بموجة عارمة من الفرحة الشعبية، لأنه اعتبر هذا الانتصار في الأوساط المسيحية بمنزلة نصر مسيحي، اما بالنسبة للفلسطينيين فكان فوز فرنجية بمنزلة انتصار يسجل نهاية عهد المكتب الثاني الشهابي الذي كانت علاقته متأزمة معهم منذ عام 1965».
بدأ عهد الرئيس سليمان فرنجية، وكأنه ايذان بولادة مرحلة جديدة وواعدة، ولكن التطورات الدراماتيكية حالت دون ذلك. وكانت المؤشرات تدل على ان لبنان والمنطقة يدخلان مرحلة من التأزم مع بداية عهد الرئيس فرنجية ومع حصول سلسلة من التطورات العربية السلبية منها:
- الأزمة مع المقاومة الفلسطينية في الأردن عام 1970، ثم إنهاء الوجود العسكري والسياسي لها في عام 1971، وانتقال عمل المقاوم بثقله السياسي والعسكري إلى لبنان، ثم كان الاجتياح الإسرائيلي للعرقوب عام 1972.
- وفاة الزعيم العربي جمال عبد الناصر في أيلول 1970، الأمر الذي أفقد لبنان صديقاً عربياً كبيراً، وهو الزعيم الوحيد الذي كان قادراً على التأثير على الجماهير الإسلامية والتقدمية والفلسطينية للجم عنفوانها الثوري وجموحها، إضافة إلى قناعته الاكيدة بضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية اللبنانية. وفي ظل اختفاء عبد الناصر عن مسرح الأحداث، شرعت الأبواب امام جميع التيارات والايديولوجيات والصراعات العربية التي وجدت في لبنان ارضاً خصبة للنزاعات، وفي المقاومة حقلاً للتجارب.