بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 تموز 2018 12:01ص من يصنع التغيير في لبنان وكيف يكون؟ (1/2)

حجم الخط
لبنان وطن تعدديّ بامتياز، تعدديّ بأحزابه وتياراته وحركاته السياسية، وتعدديّ بطوائفه ومذاهبه الدينية، وتعدّدي بثقافاته ولغاته وقوميات أبنائه، وتعدديّ بجمعياته ومؤسساته غير الحكومية، وتعدديّ بعلاقات مواطنيه الخارجية الإقليمية منها والدولية....
وهو بلد تربّى أبناؤه على هامشٍ واسع من الحريات السياسية والفكرية، تميز بها عن محيطه، حتى غدا ملجأ ومسرحاً ومنبراً لأبناء هذا المحيط يقولون فيه وعبر وسائل الإعلام المختلفة ما لا يقولونه في بلدانهم الأم. 
وبفضل هذه الحريات وتلك التعدديات تفاهم القياديون فيه، بعد الإستقلال على دستور جامع، وأعراف مختلفة، وتوازنٍ في العلاقات مع الخارج كرّست مبادئ العيش المشترك بين أبنائه، وأسست لاقتصاد منفتح عرف أوجه في الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي.
لكن هذا الاستقرار لم يكن محصّناً كما يكفي للوقوف في وجه المخططات الماكرة التي كانت تُعدّ وتُحضّر للمنطقة بدءاً من لبنان، فامتدت أيادي العبث الماجنة، الخارجية منها والداخلية، مستخدمة هذه التعدديات وتلك الحريات في الإتجاه المعاكس لتُحدِث فيه حرباً أهلية أتت على البشر والحجر، واستمرت زهاء خمسة عشر عاماً، وخلّفت تراجعاً مخيفاً في الفكر والسياسة، وفي التربية والتعليم، وفي الولاء للوطن والإلتزام بالدين والقيم.
وأمام ما جرى وما يجري في عالمنا العربي من محاولاتٍ للتغيير نحو الأفضل في ما سُمّي بالربيع العربي، الذي سرعان ما انكفأ ليصبح خريفاً عربياً ينذر بعواصف الشتاء العاتية، التي تلوح في الأفق على كل الصعد، السياسية منها والأمنية والاقتصادية والاجتماعية... وجدتُ من المفيد طرح هذا التساؤل البديهي: من الذي يصنع التغيير في لبنان وكيف يكون؟
1- السياسيون – رجال الدولة. فهم الأولى والأقوى في عملية التغيير. فلولا رجال السياسة وأبطال الاستقلال لما عرف لبنان استقلاله وانفتاحه على الشرق والغرب وبتوازنٍ لافت، ولما عرف اقتصاده ازدهاراً مميزاً، وعمراناً متسارعاً وسابقاً لمحيطه بكل المقاييس.
والسياسيون – رجال الدولة هم الذين يتمتعون بالقيم الأخلاقية على تنوعها وأهمها الصدق والأمانة، والإخلاص للوطن ونظافة الكف، فلا يقبلون الفساد بل ويحاربونه بكل أشكاله، ولا يسمحون لأية علاقات خارجية أن تعلو على مصلحة الوطن.
والسياسيون – رجال الدولة، يمتازون عما سواهم من الزعماء الشعبويين بأنهم هم الذين يقودون الجماهير، بفكرهم المتزن وعقلهم المنفتح، وبرؤيتهم وإيمانهم الراسخ بمصلحة الوطن التي تعلو عمّا سواها، فلا ينقادون بعاطفة الجماهير، ولا يتقيدون بشعارات فارغة. بل ينطلقون من الواقع السياسي مهما كانت ظروفه، في مخطط جامع قابل للتطبيق، وعلى مراحل زمنية معينة، وآخذٍ بعين الاعتبار المعطيات المحلية والإقليمية والدولية. ويواكبهم في كل ذلك مفكرون ورؤيويون، ومراقبون ومحلّلون سياسيون، وإداريون ومستشارون من ذوي المؤهلات العلمية العالية لمتابعة عمل مؤسسات وأجهزة الدولة وقطاعات الخدمات فيها بما يتناسب مع متطلبات العصر الحديث. فهم الذين يملكون ملكة التخطيط والتنظيم وتحديد الأهداف المرحلية والاستراتيجية ويرسمون خارطة الطريق لتنفيذها.
يخطئ كثيراً من يعتقد أن قوة القائد السياسي في عدد مناصريه، في الشارع، أو أعضائه في المجالس التمثيلية، فتلك هي مواصفات الزعيم الشعبوي الذي يستطيع أن يجمع مظاهرة مطلبية حاشدة، ولكنه لا يستطيع أن يبني دولة ولكلٍ منهما دوره. إن قوة القائد السياسي – رجل الدولة هو الذي يملك الرؤية السليمة لمستقبل الوطن، ويضع الأهداف المرحلية والاستراتيجية لتحقيق هذه الرؤية، ويملك الخطاب السياسي المتماسك الذي يمتاز بالشمولية والعمق والغنى بالحجج والبراهين لإقناع الآخرين برؤيته وبرامجه، ليكونوا شركاء معه في البناء والتنفيذ، كما هم شركاء في الوطن. كما يملك العلاقات الدولية والإقليمية الوازنة والموزونة، والفكر الواعي والمدرك للمتغيرات المحيطة، ويملك الفكر المنفتح على جميع مكونات الوطن، يُحق حقهم بإرادة صلبة ويقين ثابت وحكمة بالغة، ويُبطل باطلهم بدون تسفيه أو عدوان أو تسلّط، ويتعامل مع الآخرين تحت شعار: نتعاون فيما اتفقنا حوله، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
2- العقائديون: 
رجال الدين والحركات الدينية. الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل. والخطاب الديني، في المسجد والكنيسة يشكل حلقة مهمة في صناعة التغيير، ذلك أنه موجه إلى جميع المؤمنين والمصلين على حدٍّ سواء، الغني والفقير، والمتعلم والجاهل، والكبير والصغير.... وهو يلعب دوراً إيجابياً إذا كان موجهاً لتزكية القيم الإنسانية، المشتركة في معظمها بين جميع الشرائع السماوية، كالصدق والوفاء والمروءة والشجاعة والحياء والإخلاص والأمانة.... كما أن جميع هذه الشرائع تدعو إلى إقامة العدل، والمساواة في الحقوق والواجبات، وإلى نشر السلام وحرية المعتقد، والحوار بالحسنى.... ولعله من نافل القول، التأكيد على أنه في المجتمعات التعددية، حيث تكثر الطوائف والمذاهب وتتعدد العقائد الدينية، يصبح الاهتمام بالقيم الإنسانية – الجامعة والمشتركة في جميع الشرائع السماوية، والمرتبطة كلها بالعقيدة الدينية ارتباطاً وثيقاً – أكثر تقبّلاً وأسهل تطبيقاً وأفعل دوراً في صناعة المستقبل، وبناء الوطن ولُحمة أبنائه، إذا أُحسنت الدعوة إليها.
أما إذا تعدى الخطاب الديني ذلك إلى زرع بذور الطائفية، وإقحام الإنتماء الطائفي في الأدوار الوطنية وفي وظائف الدولة وخدماتها ومشاريعها، فإن ذلك يصبح وبالاً على الأرض.
- الأحزاب والتيارات والحركات السياسية. كلها تنظيمات سياسية تسعى إلى بلوغ السلطة السياسية داخل الحكومة وفي الانتخابات الرئاسية وهي تتبنى إيديولوجيات معينة ورؤى محددة. وهي تشكل حلقة بالغة الأهمية في التغيير المنشود.
وقد عرف لبنان منذ استقلاله وحتى يومنا هذا، أحزاباً مختلفة ومتنوعة في نظمها وسياساتها ومشاربها. وإذا كانت هذه الأحزاب، في فترة ما بعد الاستقلال تتنافس فيما بينها على استقطاب المناصرين والمؤيدين، لكنها كانت تتكامل وتتعاون في كل ما يخدم مصلحة الوطن والمواطن. وليس أدلّ على ذلك من التعاون الوثيق الذي كان قائماً بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح الذي أثمر اتفاقاً حول الميثاق الوطني، رغم أن الأول أسس الحزب الدستوري، والثاني لم يكن من أعضائه. ذلك أن العصبية الحزبية كانت تقف خارجاً على أبواب مؤسسات الدولة ونظمها وأدائها وإداراتها. وقد وافقت جميع الأحزاب المختلفة والزعامات السياسية في حينها على هذا الميثاق، الذي أرسى دعائم الجمهورية اللبنانية، وكان من شعاراته الجامعة لا للشرق ولا للغرب.
وإذا كانت معظم هذه الأحزاب، اليوم كما بالأمس، ترفع شعارات متقاربة حول استقلال الوطن ووحدة أراضيه، ونمو اقتصاده وحرية المعتقد.... وتلتقي فيما بينها حول ذلك، إلا أنها غالباً ما تختلف في شعاراتها المرحلية، وفي تقييمها للمتغيرات الظرفية المحلية منها والإقليمية، وكل ما له انعكاسات على الداخل اللبناني. لذلك كانت سياسة النأي بالنفس التي ابتكرها الرئيس نجيب ميقاتي، وأقرّتها الحكومات المتعاقبة، وممارسة هذه السياسة قولاً وسلوكاً، تشكل خشبة الإنقاذ وزورق الإبحار بعيداً عن الخلافات والنزاعات الإقليمية المتسارعة، وحرصاً على استقرار الوطن وسلامة اقتصاده.
والتطرف في العقيدة الدينية أو السياسية، على حدٍ سواء، هو وجه من وجوه العصبية المذمومة، التي تجنح بصاحبها نحو القتل والتدمير، واحتلال الأراضي وإجبار الناس على ردات الفعل المتطرفة مما يزيد في التطرف ويولد العنف والإرهاب. ويغذي هذا التطرف ضعف التنشئة الدينية أو السياسية والجري وراء شعارات فارغة تحمل في طياتها إثارة المشاعر، أكثر من ارتكازها على حقائق علمية ثابتة، وأكثر من سعيها لتحقيق أهداف مرحلية واستراتيجية سليمة. وللأسف الشديد فإن التطرف في العقيدة يجد تربة خصبة في المجتمعات التعددية إذا غلب عليها الظلم والجهل والفقر، ولعل من أهم محاور تجفيف منابع التطرف والإرهاب معالجة هذا الثالوث الخطير بالعدل والتربية والتعليم والاقتصاد السليم.