بيروت - لبنان

اخر الأخبار

9 آب 2019 06:03ص ناس المستقبل!

حجم الخط
قليلة هي المحطات التي تسمح لنا المهنة بإدخال مشاعرنا لمقاربتها والحديث عنها، وهذا مردّه الى الحالة اللبنانية المتسارعة، حيث لا نكاد نفرغ من قضية تشغل بالنا، حتى تنهال عشرات القضايا الأخرى، لتأسرنا في الضياع وتجعل أقلامنا عاجزة عن التعبير.

المحطات تمنعنا، لكن الوفاء للأمكنة يُقيم ثائرة الأقلام، فتحجز مواعيد خاصة، عاتبة، وغاضبة أحيانا حيال واقع مُلئت كل لحظاته بالولاء والإنجاز والاستقامة غير أن مواعيد الإنصاف تأخرت جدا!

حقوقنا في «المستقبل» الشاشة التي أعطتنا أملاً بلبنان في وقت لم تكن رائحة البارود قد هاجرت المدن اللبنانية بعد أوائل التسعينيات، والإذاعة التي سرقت مسامعنا ودخلت بيوتنا بأصوات ومضامين قديرة، والجريدة التي خطت على صدر صفحاتها كل معاني الوطنية والانفتاح والتعايش لا تختصر بالمبالغ المالية المتراكمة، وإنّما بسنوات مُصرّة على العمل والتحدي مقابل إصرار من نوع آخر، إصرار على التسويف!

طوال السنوات الخمس الماضية من الأزمة المالية التي عصفت بمؤسّسات المستقبل ومنها تلفزيون المستقبل وإذاعة الشرق حيث عملتُ محرّرا ومذيعا للأخبار، وحيث قدمتُ العديد من البرامج، آثرت عدم التعليق وعدم إبداء الرأي، مُفضلا العمل على الكلام وتسجيل المواقف في ظل ضائقة بدت منذ اللحظة الأولى أنها طويلة وتدوم رغم التطمينات الموسمية التي كانت تردنا.

هذه الفترة سجلتُ خلالها صورا ومشاهد لا تنسى من عمر معاناة زملاء يُشهد لصبرهم ومناقبيتهم ووفائهم وولائهم لمؤسسة رفضوا أن يروها تنهار، فواصلوا إمدادها بحلاوة الروح رغم أوضاعهم الصعبة والكارثية. 

مع كل شهر كان يمر دون وصول رواتبنا كنت أتساءل: لما يأتي هؤلاء؟، لماذا يُصرّون على تضمين النشرات تقارير خاصة رغم ظروفهم القاتمة؟، لماذا هذا الهلع من المحرّرين والمراسلين والمنتجين والمذيعين والتقنيين والمصوّرين والمخرجين لإتمام النشرات على أفضل صورة وكأن شيئا لم يكن؟، لماذا ينهون أي حديث عن الأزمة بالدعوة مرارا وتكرارا الى الصبر؟، لماذا ولماذا ولماذا؟ 

حتى جاء اليوم الذي بات فيه التساؤل واجبا أخلاقيا لم يستطع الزملاء حصره داخل أروقة المؤسّسة، فتفجّر تحركا مُحقا غابت على اثره المواد الإخبارية الاساسية والبرامج الحوارية والسياسية للمرّة الأولى منذ أطلت الشاشة على اللبنانيين عام 1993.

لقد غدت هذه التساؤلات دافعا أكثر من أخلاقي لتوصيف أوضاع زملاء سحقهم الانتظار بجملة من الاضطرابات النفسية والعصبية، عدا عن المشاكل الاجتماعية التي اقتحمت بيوتهم وأجّلت استحقاقاتهم، وأخرجت أولادهم من المدارس والجامعات، ودفعتهم إلى بيع سياراتهم أو رهن ما يملكون وكل ذلك على وقع حالة ركود لا أفق لها! 

لا نكرّر اليوم أي مناشدة بضرورة إخراج الحل الجذري لأزمة قتلتنا جميعا، ولن نحمّل أحدا مسؤوليات عليه بالأصل تحمّلها، ولن تُضاف أي كلمة على الصرخات المتعالية، بل ننتهزها مناسبة لنطبع على جبين الزملاء قبلة ود ومحبة وتقدير واحترام يفوق الوصف.

مهنيتكم جميعا لا تُختصر بما قدّمتوه رغم غياب رواتبكم، مهنيتكم تكمن في أنّكم علّمتم كل من يهمه الأمر، كيف يكون الانتماء الذي أتمنى ان تكون له نهاية سعيدة تتمثّل بالإلتفات فقط.. الإلتفات فقط الى طاقات أعطت كل ما أعطت خلال خمس سنوات مالية صعبة، فكيف إذا ما حصل هذا الإلتفات، ونلتم ونلنا معكم التقدير المناسب واللائق؟!

أنتم شيّدتم في قلبي وعقلي وحواسي امبراطورية مهنية قل نظيرها، ويوم وصول النهاية السعيدة التي ننتظرها جميعاً، ستكونون قادرين على إحيائها من جديد في عيون كل من عايشكم.

الزميل الذي يعلو صوته غضبا، ويُنهي عاصفة الغضب بالتهام عدد من السجائر، ويعود الى عمله لإكمال تقريره وخبره يستحق شكرا كبيرة. 

الزميلة التي تترك أطفالها وتقاطع صيحات الغضب للاطمئنان عليهم من وقت لآخر، ثم تتفرّغ بما تبقّى لها من أعصاب للقراءة ومتابعة موضوعها تستحق تقديرا!

الزميل الذي يسابق الضوء كي لا تكون إطلالة اليوم الاخباري باهتة يستحق «الله يعطيك العافية».

الزميل الذي يُنهي مهامه، ومع ذلك يحضّر مادة الصباح للإطلالة بكل جديد يستحق «عفاك».

الزميل الذي والزميلة التي.. تقطع إجازته أو إجازتها لتغطية الشواغر بالمجان يستحق وتستحق «عذّبناك».

المال كان صعبا خلال تلك الفترة وكذلك التقدير كان عملة منقرضة.. ووحده المعدن الأرقى كان هؤلاء الزملاء.