بيروت - لبنان

اخر الأخبار

5 كانون الأول 2019 06:10ص هل تُحقِّق إنتفاضة اللبنانيِّين ما لم تُحقِّقه حَربُهم؟

انتفاضة السلام اللبناني.. الأرزة تحمينا انتفاضة السلام اللبناني.. الأرزة تحمينا
حجم الخط
«الشعب يريد إسقاط النظام!» شعار هتف به مئات ألوفٍ من المُتظاهرين والثائِرين والمُحتجّين اللّبنانيّين من شمالي البلاد إلى جنوبها، في حراكٍ مهيب انطلق يوم السابع عشر من تشرين الأوّل (أكتوبر) الفائت ولم تخفت وتيرته إلى الآن. علت صرخات الناس الموجوعة ضدّ الطبقة السياسيّة بمكوّناتها كافّة، تحت شعار «كلّن يعني كلّن»؛ أي ضدّ ممثّلي السلطات الرئاسيّة والتنفيذيّة والتشريعيّة، وحتّى ضدّ التدخّلات السياسيّة في صلاحيّات السلطة القضائيّة ورموزها، كما وضدّ سطوة المَصارف ممثّلةً بالمصرف المركزيّ، الذي اتُّهم بتحالُفه مع أركان الدولة من خلال سياسات ماليّة أوهمت اللّبنانيّين على مدى سنوات بأنّ الوضع النقدي والمالي في لبنان غير مُثير للقلق، في حين أنّ البلد، الذي يتجاوز ارتفاع الدَّين العامّ فيه نسبة 152% من حجم النّاتج المحلّي، يحتضر على الصعيدَيْن الاقتصادي والمالي. 

ككلّ حدث أو واقعة اجتماعيّة، ثمّة سبب مباشر فجَّر هذا الحراك في لبنان، بغضّ النّظر عن توصيفاته( أي ما إذا كان حراكاً أو انتفاضة أو هبّة أو ثورة)، تمثّل بفرض ضريبة على استخدام تطبيق التواصل الاجتماعي، «واتساب». لكنّ هذا السبب غالباً ما تختفي خلفه جملة من الأسباب تكون في الواقع مترابطة ومُحدَّدة بقانون ما، هو في الحالة اللّبنانيّة النظام الطائفي الذي لم تحُل القوانين أو بالأحرى «النظام البرلماني الديمقراطي» في لبنان دون تهديده للأمن الاجتماعي. فالتاريخ هو أفضل مختبر يُمكن من خلاله رصد أو آليّات تحوّل الكيانات ما قبل القانونيّة، أو كيانات ما قبل الدولة، كالطائفة، إلى عنصرٍ مولِّد للعنف والاقتتال والسيطرة، أو من جعْل الدولة رهينة الطوائف القويّة وذات النفوذ. فهذه العصبيّة الطائفيّة، وبوصفها نظام التوجّهات والسلوكيّات وآليّات التفكير التي تتحكَّم بالأفراد والجماعات وبنظرتهم إلى الماضي والحاضر والمستقبل، سمحت منذ تشكّل الدولة اللّبنانيّة، بالتحكّم بالحاضر وبالتعايُش معه لا بوصفه نظاماً ماضويّاً تخطّاه الزّمن، بل بوصفه حالة راهنة متجدّدة وحيّة، وذلك بعلاقة مشروطة بضُعف دولة القانون أو بقوّتها. 

ففي هذا النظام الطائفيّ التي تعزَّز في عهد الانتداب الفرنسيّ على لبنان، تدعّمت الطوائف ككيانات سياسيّة لها أنظمتها الخاصّة والمستقلّة، لتتحوّل الطائفة من ثمّة إلى طائفيّة، لأنّها- أي الطائفيّة- في لبنان ليست، بحسب المفكِّر اللّبناني مهدي عامل في كِتابه «في الدولة الطائفيّة»، «كياناً، وليس لها وجود أنطولوجيّ. إنّها علاقة سياسيّة (...) قائمة بالدّولة، بمعنى أنْ لا وجود مؤسّسيّاً لها إلّا لكونها قائمة بالدولة، وتحديداً بالدولة الطائفيّة». لذا تعطّلت وظيفة الدولة بالمعنى الفيبري، أي كدولة تحتكر القوّة الفيزيقيّة، لمصلحة التعدّدية السياسيّة للطوائف، وذلك على قاعدةٍ توافقيّةٍ جَعلت من كلّ تغيير تهديداً للسِّلم الأهليّ. هذه المُعادلة التي انبنى عليها نظام الطوائف في لبنان كرَّست في الوعي المجتمعيّ حقيقةً، لا تعدو كونها وهماً أو تضليلاً، بأنّ قوّة الدولة والسِّلم الأهليّ تكمن في مدى قدرتها على كبح هَيمنة طائفة على أخرى. والنتيجة بحسب هذا المنطق هي كما يورد مهدي عامل « أنّ إلغاء النظام السياسيّ الطائفيّ يكون بتأبيده. فعلى مَن يريد تغييره أن يعمل لتأبيده». هكذا، وعلى الرّغم من التحوّل الرأسماليّ الذي انطلق بعد الاستقلال في العام 1943 وما رافقه من تطوّر نسبيّ لعلاقات الإنتاج الرأسماليّة، بقي التفاوت بارزاً بين هذا التطوّر من جهة، وبين « الطابع التقليديّ، شبه البدائيّ، للعلاقات السياسيّة والاجتماعيّة الموسومة بشدّة بطابِع الارتباطات المَوروثة، والخصوصيّات الطائفيّة، والقَبليّة والعشائريّة، والمناطقيّة»(كمال حمدان، الأزمة اللّبنانيّة، 1998). ولم يلبث اتّفاق الطائف الذي وضع حدّاً للحرب في لبنان (1975-1991)، أن اتّجه، من خلال تعديله نِظام توزيع السلطات بين الرئاسات الثلاث، إلى تسويةٍ أعادت تثبيت توازنات النّظام الطائفيّ القائِم على العصبيّات الدينيّة وغيرها، أي هذا النظام الذي لم يتوقّف منذ ما يربو على أكثر من مائة وخمسين عاماً عن توليد الأزمات والصراعات عند كلّ مفصل تاريخي تحدث فيه تغييرات في التوازنات، أكانت هذه التوازنات داخليّة أم خارجيّة. 

ووفق هذه الآليّة إذاً، تجسّد كبش الفداء أو الضحيّة، على المستوى الرمزيّ، في قتل أيّ مُحاولة تغيير حقيقيّة وبنيويّة للنظام؛ إذ إنّ العنفَ المقدَّس بحسب نظريّة رينيه جيرار يَستلزِم التضحية وإيجاد كبش فداء، وذلك بشكلٍ تكراريّ ودائريّ بغية تثبيت السِّلم الاجتماعيّ. فكان من الطبيعي أن تغدو العصبيّة الدينيّة في النظام الطائفي اللّبناني، وبوصفها شكلاً مقيتاً من أشكال التحيّزات ضمن إطار الدولة، القوّة القادرة على الدَّفع نحو التضحية بكبش فداء مجتمعيّ يُفتدى به السِّلم الأهلي تحقيقاً للتوازنات. 

وعلى الرّغم من عدم تطابُق المفاهيم الكلاسيكيّة للثورة على واقع ما يجري في لبنان اليوم، إلّا أنّ اختلاف السياق التاريخي والاقتصادي الاجتماعي اللّبناني عن ثورات عالَميّة أخرى يُحتّم توصيف هذا الحراك بأنّه أكثر من انتفاضة وأقرب إلى الثورة؛ إذ قد يبدو مفهوم الثورة، وفق المفاهيم الكلاسيكيّة، فضفاضاً في حال اعتبرنا أنّ الثورة هي أكثر من تمرّدات ناجحة أو تنافُس على حيازة القوّة، بحيث إنّه ليس بوسعنا الحديث عن «ثورة»، بحسب حنّة أرندت في كِتابها «في الثورة»، إلّا حين يَحدث التغيير ويكون بمعنى ما بدايةً جديدة، فضلاً عن ضرورة توافر متغيّرَات أساسيَّة في كلّ ثورة مثل: «الجماهيريّة»» (بمعنى الشعبيّة)، و«العنف» (أي حين يُستخدَم العنف لتكوين أو تشكيل نظام سياسي بديل) و«وجود قائد» (أي أن يكون لهذه الثورة قائد فرد أو حزب). في حين أنّ انتفاضة لبنان لم تُحدِث حتّى الآن تحوّلاً في علاقات القوى بالمجتمع (وليس من أُفق يشير إلى تحوّلٍ قريب في هذا الشأن)، وأنّها لغاية الآن تمتاز بطابعها السلمي، وأنّها تفتقر إلى القيادة السياسيّة المنظَّمة والمجهَّزة بأيديولوجيا أو مجموعة من الأهداف البرامجيّة التي تهدف إلى إحداث تحوّل بنيوي في المجتمع. 

ثورة مخنوقة لكنْ غير مُستحيلة

غير أنّ جملة مَظاهر رافقت هذه الانتفاضة تجعل منها، في حال استمرّت على ثباتها، ثورةً لم يشهد مثلها تاريخ لبنان القديم والحديث. أوّل هذه المَظاهر التي تسمح لنا بهذا التوصيف، فضلاً عن جماهيريّة الحراك واتّساع رقعته الجغرافيّة، تجاوزه الانتماءات الطائفيّة والمذهبيّة بوصفها - أي هذه الانتماءات- كانت ولا تزال السدّ الأساس المانِع لتوحيد الشعب بكلّ أطيافه وتوجّهاته السياسيّة تحت مَطالب اجتماعيّة واحدة (طبابة واستشفاء وتعليم وضمان صحّي واجتماعي وضمان شيخوخة وقانون موحّد للأحوال الشخصيّة يزيل القهر والعنف القانوني الطوائفي المُمارَس ضدّ النساء...إلخ)، وتفعيل قوانين مُكافحة الفساد وإعادة المال المنهوب من خزينة الدولة.

أمّا ثاني هذه المَظاهر، فيتمثّل بقيام هذا الحراك الشعبي تحت راية مُناهَضة أشكال الاستئثار بالسلطة من طرف ممثّلي الأحزاب الطائفيّة، الذين طوَّعوا النّظام الديمقراطي اللّبناني لمُمارسة أشكال الاستبداد السياسي والقانوني والديني، وتجذير منظومة العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والتربويّة البدائيّة. وهو ما يتجلّى في الضغط الذي تُمارسه كتلٌ في الحراك من أجل إحداث تغييرٍ دستوريّ عاجل لتقويض طائفيّة النّظام.

أمّا ثالث هذه المَظاهر، فهو أنّه مع العَولمة- وبحسب برتران بادي في مقالته La revanche des sociétés arabes (المنشورة في صحيفة لوموند بتاريخ 24 / 2 / 2011)- وتقدُّم تقنيّات الاتّصال وتنوّع الولاءات والهويّات، باتت التوتاليتاريّة مشروعاً صعب التحقيق- إذا ما اعتبرنا أنّ لبنان بنظامه الديمقراطي غير التوتاليتاري يعاني من توتاليريّات زعماء الطوائف وأحزابهم- وأنّنا دخلنا اليوم في العصر ما بعد اللّينيني، حيث الحراكات تبدو فعّالة عندما تفتقر إلى قائد أو أيديولوجيّة أو برنامج أو تنظيم يتولّى تحريكها. وأمّا رابع هذه المَظاهر، فيتمثّل بالنموّ والنشاط المطّردَين لتنظيمات المجتمع المدني منذ مطلع تسعينيّات القرن الفائت، والدور الفاعل لهذه المنظّمات والهيئات، بكتلها الشبابيّة، في حركة التوعية العامّة حول موضوعات حقوقيّة راهنة تتعلق بالبيئة والمرأة والطفل والمُسنّ والفساد وغيرها وغيرها، ناهيك بدَورها الرقابي والمطلبي.

لكنْ في الوضع اللّبناني والإقليمي والعالَمي الرّاهن، وفي ظلّ ما آلت إليه أوضاع بلدان الربيع العربي، قد ينطوي حديثنا عن ثورة في لبنان على نَوعٍ من الطوباويّة المُفارقة للواقع لأسباب عدّة، منها أنّ جماهيريّة هذا الحراك الشعبي الضخم قد لا تشمل الناس المنضوين تحت لواء أحزابهم الطائفيّة والمذهبيّة، وأنّها أيضاً مُختَرَقة من تلك الأحزاب نفسها بوصفها أحزاب السلطة أيضاً. لذا نقول إنّ تماسُك الحراك الشعبي ومقاومته الانحراف عن مَساره الوطني العابر للطوائف والمناطق والأحزاب باتّجاهاتها كافّة، ولاسيّما الطائفيّة، فضلاً عن حرصه على عدم الانجرار لثوراتٍ مُضادّة يقوم بها ممثّلو السلطة والمُتضرّرون من أصحاب رؤوس الأموال، سواء عبر إحداث فوضى وإفشال مهمّة الجيش في السيطرة على الوضع، أم عبر إحداث فتن طائفيّة ومذهبيّة، وتأزيم الوضع الاقتصادي، المتأزِّم أصلاً، كوسيلة ضغط أساسيّة لصدّ اندفاعة الشعب...إلخ، من شأنه تحويل الانتفاضة إلى ثورة، وذلك بإحداث تحوّل بنيوي في المجتمع.

نعم التحدّيات كثيرة ومتشعّبة، ولاسيّما أنّ الانقسامات الطائفيّة والمذهبيّة التي يُكرِّسها نظام المُحاصصة الطائفيّة في لبنان هي انقسامات هويّاتيّة ذات ارتباطات وارتدادات إقليميّة ودوليّة، وأنّها- أي هذه الانقسامات- مع نظام القيَم الذي يتفرّع عنها تؤدّي بحسب جورج قرم «إلى تناقُضٍ عميق في تحديد مَن هو الصديق ومَن هو العدوّ للمجموعة العربيّة ككلّ، بين من يدّعي أنَّ المحور الإيراني- السوري - الروسي والصيني هو العدوّ، ومَن يدَّعي أنَّ الهيْمنة الأميركيّة الصهيونيّة الأوروبيّة هي العدوّ الرئيس» (جورج قرم، «الحلقة الضائعة في الثورات العربية (1)»، جريدة السفير، 5 /8/2013).

على هذا، قام سؤالنا الأساسي حول ما إذا كان حراك السابع عشر من أكتوبر في لبنان (أو انتفاضته المرهونة طبعاً بمآلاتها وارتداداتها المُستقبليّة)، سيستحقّ بالفعل صفة «ثورة». تلك الصفة المشروطة بقدرة الحراك- الانتفاضة على تقويض النظام الطائفي اللّبناني؛ إذ ذاك تكون الثورة قد حقَّقت ما عجز اللّبنانيّون عن تحقيقه بسبب إخفاقهم في الإفادة من تجربة الحرب الأهليّة ودروسها. 

د. رفيف رضا صيداوي

مؤسّسة الفكر العربي