بيروت - لبنان

اخر الأخبار

11 كانون الثاني 2020 09:00ص هل تطغى سياسة المواجهة على أولوية الثورة؟

«8 آذار» أمام الذات: أخفقنا في خطابنا الاجتماعي

مشهد من المواجهات  في ساحات الانتفاضة مشهد من المواجهات في ساحات الانتفاضة
حجم الخط
إنه الامتحان الأهم الذي تواجهه اليوم القوى التي تعرف بـ«8 آذار» مع مواجهتها لاستحقاقين داهمين بالغي الأهمية، داخلي وخارجي من شأنهما رسم معالم المرحلة.

ليست المرة الأولى التي تُمتحن فيها تلك القوى، فقد واجهت قبلها إمتحانات عديدة كان أهمها لدى التأسيس في تظاهرتها الشهيرة في رياض الصلح والتي جاءت في الثامن آذار من العام 2005، تحت عنوان شكر الدور السوري.

لم تكن مصادفة أن التظاهرة تلك جاءت في ذكرى «ثورة 8 آذار» في سوريا العام 1963 على «حكم الإنفصال»، والتي أسست لحكم «حزب البعث» منذ ذلك الحين، وقد أراد «حزب الله» الإيحاء بخيار لبنان نحو سوريا والتحول نحو ضابط للشأن اللبناني على غرار ما كان عليه السوريون قبلها. والواقع أنه لم تثر تظاهرة في تاريخ لبنان الجدل والسجال والاتهامات. ومنذ ذلك الحين، تستجلب «8 آذار» الجدل الذي يتعزز مع الانقسامات المختلفة التي تتغذى من التطورات وتعرّي الجسد اللبناني من وحدته وأحيانا إستقراره.

رئاسة عون تطيح بالإصطفافين

وبينما انقسمت البلاد طويلاً الى معسكرين متضادين في شكل مرير هما معسكرا «8 آذار» و«14 آذار»، بدا الأول أكثر ثباتا وتنظيما، في الوقت الذي نهشت فيه الانقسامات جسد الثاني. وبعد ان اتخذ الانقسام صبغة طائفية ومذهبية، كان من الممكن الادعاء انتفاء هذا الانقسام مع وصول زعيم «التيار الوطني الحر» ميشال عون الى سدة الرئاسة في تسوية جمعت الأقطاب الكبار.

كان من الواضح أن عون هو مرشح قوى «8 آذار» وخاصة «حزب الله» الذي منع منافسته حتى من قبل غريم عون الوفي للحزب سليمان فرنجية. ولكن تطويب عون من قبل «القوات اللبنانية» وخاصة زعيمها سمير جعجع، وتوفير الشرعية السنية لرئاسته من قبل زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، كانا عاملين مهمين لإيصال عون الى عرش الرئاسة.

حينها، بدا المشهد غريبا، خاصة في ظل معارضة ضمنية لوصول عون أبداها القطب الثاني في «8 آذار» زعيم «حركة أمل» الرئيس نبيه بري، وبعض من هم في تلك القوى الذين كانوا يفضلون وصول فرنجية. وذلك بعد أن تبين أن التقاطعات والاختلافات حول رئاسة عون قد أودت بحلفي «8» و«14» آذار.

لكن «حزب الله» ضبط الاختلاف، وكرّس ترشيح عون الذي أجرى حلفاً ضمنياً مع الحريري بمباركة الحزب، وهو الحلف الذي ضم وريث عون في «التيار» وربما في رئاسة الجمهورية، الوزير جبران باسيل.

17 تشرين: إنقلاب المشهد

تغّير المشهد تماما مع اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول بعد نحو ثلاث سنوات من رئاسة عون.

وُضع الجميع في قفص الاتهام. وبدت السهام موجهة الى الطبقة السياسية مجتمعة، لكن، لأسى العهد وحلفائه، فقد وضعهم منتفضو الساحات في واجهة المُلامين.

وشاء العهد أم أبى، فإن كثيرين في الداخل والخارج يصنفونه، منذ تفاهم مار مخايل العام 2006 مع «حزب الله»، في إطار قوى «8 آذار» التي حمّلوها جزءا كبيرا من مسؤولية الانحدار في البلاد.

ولم تأت مواجهات الشارع من قبل الثنائي الشيعي في وجه الحراك الشعبي سوى لتزيد هذا الشعور ولتُعمق السخط في الشارع، بينما برع بعض من في السلطة في مجاراة الحراك وتبني مطالبه الشعبية مثل الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط والحريري، وأحياناً الإفادة منه وربما تسلقه مثل جعجع.

من جهتها، تبنت القوى الكبرى في «8 آذار» مطالب الحراك في المرحلة الأولى لا بل شاركت فيه، لكن اللهجة تبدلت مع رفض المنتفضين الورقة الاقتصادية التي خرج بها أركان السلطة والتي احتوت فعلا على إنجازات حقيقية. وبدا المزاج العام في تلك القوى مخاصما للحراك، بينما احتفظ البعض في «8 آذار» بموقف مؤيد حتى النهاية للثورة.. كما حصل الحراك على انخراط قوى مؤيدة لخط المقاومة وتحتفظ بالنظرة نفسها للصراع مع إسرائيل كـ«الحزب الشيوعي» الذي لم ينضو يوما في قوى «8 آذار».

ويبدو أن الحراك قد أحرج تلك القوى في خطابه الذي حاكى وجع الناس وآلامهم وآمالهم. وفي هذه القوى من يُقر بـ«رخاوة الخطاب الاجتماعي» الذي قدمته الى الناس، لكن خطاب العزل المستمر لهذا الحراك وتصنيفه الدائم في إطار المؤامرة يشكل ثغرة كبيرة في خطاب «8 آذار». والواقع أنه لم تجر مراجعة عميقة لواقع الامتحان الشعبي الذي جرى خلال الانتخابات النيابية الأخيرة التي، وإن حققت خلالها تلك القوى انتصاراً نسبياً، لكنها أشارت الى فتور شرائح شعبية لا يستهان بها تجاه واقع الأمور ما دفع بكثيرين الى مقاطعة الاستحقاق الانتخابي.

والحال أن المراجعة المنقوصة تلك، وهي ليست الأولى، تزامنت مع بعض سوء الإدارة في تنظيم الأحلاف الانتخابية في بعض المناطق والتضحية بحلفاء ثابتين لخط المقاومة كان أبرزهم رئيس «حزب التوحيد العربي» وئام وهاب، وكان من نتائجها خسارة مرشح «حزب الله» في دائرة كسروان جبيل، وانفصال الحزب عن «التيار الحر» في بعض المناطق، ما كاد يؤدي الى خسائر نوعية في بعض الدوائر كما في الجنوب، وذلك للمرة الأولى منذ قيام حلف الثنائي الشيعي.

يقر القيادي في «الحزب السوري القومي الاجتماعي» توفيق مهنا، بأن رسم التحالفات الانتخابية أدى الى تعويم خصوم لقوى «8 آذار»، لكنه يشير الى نية لتفعيل عمل هذه القوى لتكوين ما يعتبر إطارا أكثر ثباتا قد يتخذ شكل الجبهة، ولو من دون اتخاذه عنوانا محددا. والواقع أن الزمن بات يفرض أمرا كهذا بعد أن تخطى الإطار المشهدي التنسيقي السابق تحت إطار «لقاء الاحزاب والقوى الوطنية»، وخاصة بعد التسوية الرئاسية وتداخل مشهد التحالفات التحاصصية الطائفية الذي لم تخرج به تلك القوى عن واقع الماضي.

... وإزاء كل ما حدث في البلاد منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية، وبعد تفكير طويل، أطلق البعض داخل تلك القوى دعوة الى مراجعة موضوعية للخطاب الإجتماعي الذي فشل في استقطاب الجمهور. ويقول مهنا على هذا الصعيد إن الحاجة قائمة لمبادرة إنقاذية على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية تتخذ الدروس مما حصل وأدى الى تاريخ 17 تشرين.

حضور الإقليم

تبدو النية بمراجعة خطاب «8 آذار»، وبغض النظر عن جديّتها من عدمها، أصعب مع التطورات الأخيرة الخطيرة في المنطقة. وعلت أصوات داخل «8 آذار» تطالب بفرط أية تفاهمات خارج تحضير لبنان للتصدي للظروف التي برزت في المنطقة.

لكن الأمر لا يبدو سهلا، ذلك أن من شأن التراجع عن محاكاة حركة الشارع أن يكون له عواقبه على البلد. قرر الحلف الآذاري توجيه البوصلة نحو تشكيل سريع للحكومة على أساس المتغيرات، وترسيخ الوجود الحزبي، وإن حصل مستترا، في الحكومة.

جاء هذا القرار وسط خطاب يستحضر التربص الخارجي، الأميركي تحديدا، للبنان ومقاومته عبر تقديم الإغراءات للبنان لفصله عنها وإشغاله بالغضب الاجتماعي. حتى أن البعض بات يدعو الى عودة الحريري كونه يشكل حصنا طائفيا يفيد في المواجهة، بينما يحتفظ البعض الآخر بموقف متحفظ إزاء هذا الأمر، ويدعو آخرون الى التريث قبل التخلي عن دياب وعلى رأسهم «حزب الله».

من جهته، يلفت مهنا الى أن حكومة يكون ركنها الأهم من السياسيين من شأنها أن تحصن البلاد في وجه «الهجمة» في المنطقة وتحسبا لصعود التيارات المتطرفة من جديد.

لكن ما يُخشى هو أن يختزل خطاب المواجهة المرحلة من دون الالتفات الى واقع جديد فرضته ثورة اللبنانيين التي أنذرت الجميع بأن عصر إسكات الشعوب ربطا بمخاطر الصراع مع الخارج، قد ولى.

لكن «8 آذار» تدرك تماما أن ما بعد 17 تشرين لن يكون كما قبله على الإطلاق، وهي ستحاول الموازاة بين التصدي لاستهدافها داخليا من البوابة الاجتماعية، والاستعداد لاستهداف عسكري محتمل قد يتعرض له لبنان.

ويبدو أن هذا المحور الذي يضغط في اتجاه حكومة ما يعرف اليوم بـ«تكنو – سياسية» يحضر النفس لإثارة ملفات تحاكي الوضع الحالي في المنطقة. وستُشن المعارك حول عناوين يعتبرها هؤلاء من الثوابت كـ«تعزيز صمود لبنان والمقاومة». ولكن أهم تلك القضايا وأكثرها إشكالية ستكون من دون شك مسألة العلاقة مع سوريا والتي سيسهل خوضها في ظل إصرار صقور المواجهة في المقلب الآخر لحزب الله وحلفائه، على الغياب عن الحكومة.

على أن هذا التحالف بات أمام حقيقة تنفيذ مراجعته الاجتماعية التي يجب أن تحاكي وجع الناس، في موازاة العمل على تفعيل خطابه الإعلامي الذي لا يبدو موازيا لذلك المخاصم والمعادي له، ووضع برنامج موحد لجميع قواه للمرحلة المقبلة. وقد ساد قول في أروقة تلك القوى منذ تأسيسها، وسرى خلال سنوات معاركها الداخلية في وجه قوى «14 آذار»، بأنها امتلكت أحقية القضية، ولكنها فشلت مؤسساتيا.

لكن هل ستكون «8 آذار» جدية في مراجعتها للأخطاء الماضية؟ هل ستلقى المسألة الاجتماعية حظوة في سُلم قضاياها في الاستراتيجيا والعقيدة؟ هل سيحفظ الحلف التسوية مع الخصوم في الداخل في ظل متغيرات الخارج؟ والأهم، هل ستنعتق من محاصصة سلطوية وطائفية لصالح حفظ البلد الذي ينهار؟

الواقع أنها أسئلة لا إجابات آنية عنها، لكن الأمر سيعتمد بأكمله على وعي القيادات للمرحلة الجديدة التي أقبلت على البلاد.