بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 تشرين الثاني 2020 10:25ص هل نحن بحاجة الى «فاتيكان» إسلامي؟

حجم الخط

قد يسارع البعض بالإجابة بأن الإسلام يتناقض بجوهره مع وجود مؤسسة كهنوتية. ولكن دون الدخول في حيثيات الرد على هذه الفرضية، أتساءل فيما لو كان الحل البديل هو استمرار الفوضى الدينية في الفتاوى والتعليم والإرشاد والكتب والأقنية والبرامج التلفزيونية الدينية، والتخبط في إدرات الأوقاف وتآكلها وانحرافها عن إرادة المشرع والواقف، إضافة الى الإضطرابات التي يعاني منها السلك الديني بشكل عام، وانعدام التنسيق بين الأجهزة والإدارت الدينية على المستوى العالمي، وغياب الموقف الإسلامي الموحد في القضايا التي تخص الدين أو للرد على التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية. السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال : هل أن هذه السلبيات تسبب بها عدم وجود مرجعية دينية عليا للمسلمين مما نتج عن غيابها ضبابية قاتمة في الرؤيا الإسلامية الآنية والمستقبلية...الخ.

لم تكن هذه الفوضى قائمة في ظل الدول الإسلامية التي تعاقبت على الحكم والسلطة خلال العصور السابقة والتي استمرت حتى انهيار الدولة العثمانية، وذلك بوجود الدولة المركزية القوية. صحيح بأنه كانت هناك مدارس فقهية متعددة وأخرى متخصصة في علم الكلام تتخذ من المساجد في الأغلب الأعم مقراً للتدريس في أروقته، وكانت الفتاوى تصدر عن كل صاحب مذهب دون أن تتعرض للتجريح والنقد باعتبارها صادرة عن مرجعيات عليا متصدرة في الإجتهاد والإفتاء. وكذلك فإن القضاء كان من ضمن المؤسسات التابعة لسلطة الخليفة المباشرة أو بالتفويض الى قاضي القضاة منذ نشأة الدولة العباسية. وكذلك اختيار أئمة الصلوات الخمس وخطباء الجمعة والعيدين والمؤذنين كان يتم حسب انتماء المساجد الى مساجد عامة تتبع الدولة ويعين بها القائمون على المساجد بفرمانات صادرة مباشرة عن الخليفة أو بالتفويض، ومساجد خاصة يتم التعيين فيها لهذه الوظائف الدينية من قبل الواقف.

هذا التنظيم وصل الى أعلى مستوى في التقدم والإزدهار في عهد الدولة العثمانية عندما أدخلت التعديلات على قمة الهرم الديني التي كان يشغلها قاضي عسكر الأناضول وقاضي عسكر الروم كل حسب اختصاصه الإقليمي، فاستبدلت الهرمية الدينية بعهد السلطان سليمان القانوني سنة 1585 وأعطيت الى شيخ الإسلام الذي كان يشغل بنفس الوقت منصب مفتي إسطنبول وتمددت صلاحياته ليصبح أعلى سلطة دينية مركزية تترأس الجهاز الديني والتربوي والقضائي، تمتد سلطته إلى كافة الأراضي الخاضعة للسلطنة العثمانية. دون أن ننسى دوره داخل الدولة، إذ أنه كان يعتبرمن أكبر رجالات الدولة بعد السلطان والصدر الأعظم.

الذي يهمنا أولاً هو معرفة السبب الذي أدى إلى الإحساس بالحاجة الى تأسيس سلطة دينية مركزية عليا. المستشرق Gaudefroy-Demombynes يذهب الى أنها كانت أشبه بضرورة وجود الخليفة العباسي في عصر الإستقواء المملوكي، غير أنه يرد عليه بأن الخليفة العباسي لم يكن يتصدر الفتوى بل كان الذي يقوم بها علماء الدين المماليك، رأي آخر يذهب الى الرغبة في تقليد المؤسسة الدينية الكاثوليكية التي كان يتربع على عرشها بابا روما، ومن هذه الآراء أيضاً ما ذكره البعض من رغبة السلطان مراد الثاني في تقليد المؤسسة الصوفية وتنظيم مشيخة الإسلام على غرارها، لتصبح المؤسسة الدينية الرسمية بجانب المؤسسة المدنية في الدولة. وقد صاحب ازدواجية السلطة بين مدنية ودينية تحديد صلاحيات كل منهما وتنسيقها، وبلورة بروتوكول دقيق للغاية لكل من الصدر الأعظم ولشيخ الإسلام.

التنظيم العثماني المركزي للإدارة الدينية، أثبت فعاليته لعدة قرون من حيث أن شيخ الإسلام كان المرجع الأعلى في قضايا الإفتاء والأوقاف والتعليم والقضاء، وكانت تصدر عنه كافة القرارات الإدارية لجهازه الديني على امتداد الدولة العثمانية، كما كان يطلع الصدر الأعظم على أسماء الناجحين في المباريات الدينية والقضائية لشغل مناصب في الإفتاء والإدارة والتعليم والقضاء، ويقوم هذا الأخير بعرضهم على السلطان لإصدار موافقته عليها. ولم يكن الجهاز الديني في ذلك الوقت على درجة واحدة من الرتبة والراتب، فأوجدوا تسعة مراتب للعلماء يتربع على قمتها شيخ الإسلام والقضاة في المدن الكبرى ثم قضاة المدن الصغرى والأرياف والأساتذة الى الشيخ العادي. وكان لكل رتبة علمية شروطها للتدرج من تقديم أبحاث والخضوع الى امتحانات دورية، وكان يتعين على العالم الذي يترشح لمنصب شيخ الإسلام حصوله على رتبة السليمانية وهي أعلى رتبة في الرتب العلمية. ولم يكن شيوخ الإسلام وباقي العلماء بمنأى عن المحاسبة والعقاب في حال تقصيرهم أو فسادهم، إلى حد أن العقوبات التي أصابت المخالفين لأوامر الدين والشرع خرجت عن حد المألوف المتعارف عليه في إيقاع العقوبة القصوى المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية لمثل هذا النوع من الجرائم أو المخالفات. من هذه العقوبات التي هزت أرجاء الدولة العثمانية في القرن السابع عشر حادثة قطع رأس شيخ الإسلام فيض الله أفندي وجر جثته في نواحي إسطنبول ورميها في النهر بسبب تحيزه الشديد لإقاربه وتعيينهم في المركز الدينية العليا وإن لم يكونوا أكفاء .هذا الإجراء الصارم بحق رأس السلطة الدينية شيخ الإسلام فيض الله أفندي كان سبباً بعدم تجرؤ شيوخ الإسلام الذين تولوا هذه المناصب من بعده لتعيين أبنائهم وأقاربهم في المناصب العليا داخل المؤسسة الدينية الإسلامية.

المؤسسة الدينية الإسلامية باتت بعد إلغاء مشيخة الإسلام مفرقة ومقسمة على عدد الدول التي استقلت عن السلطنة العثمانية، لا تجمعها إلا بعض المؤتمرات الخجولة التي تقام هنا وهناك تحت رعاية الدول التي ترغب في تبوأ مركز الصدارة والمرجعية الدينية للمسلمين كافة. وقد تنوعت تبعية هذه المؤسسات للسلطة السياسية فمنها من أدمج المؤسسات الدينية الى جهاز الدولة واعتبر هذه المؤسسات تابعة للدولة من حيث التعيين والإشراف المباشر، كالمملكة العربية السعودية ومصر، ومنها من ألغى هذه المؤسسات كلياً أو جزئياً، فقامت الجمعيات الدينية على اختلاف مشاربها بشكل أو بآخر بالحلول مكان هذه المؤسسات وتصدرت في أمور الإفتاء والتدريس والبرامج التلفزيونية والإذاعية، ومنها من اعطى استقلالية لهذه المؤسسات في شؤونها الدينية والوقفية مثل لبنان.

غير أن الأهم فيما تفتقده هذه المؤسسات الدينية هي في فقدان المرجعية العليا التي تجتاز الحدود والدول لتوحد المسلمين في فتاويهم الأساسية التي يقوم عليها الإسلام كدين عالمي ينشر المحبة والسلام ويقصي فتاوى التكفير والإرهاب وأسلمة العالم، ولتكون الناطق الرسمي باسم المسلمين جميعاً، تنظم وتضبط السلك الديني من حيث وضع شروط التعيين فيه والتدرج بين وظائفه وفق المستوى العلمي وكتابة الأبحاث الدورية، ومراقبته والتنسيق بين اجهزته ومحاسبة المخلّين والفاسدين فيه. هذه المرجعية الدينية العالمية حتى يكتب لها النجاح يجب أن تكون بمنأى تماماً عن السلطات السياسية للدول، دون أي تبعية مطلقاً لأي محور إقليمي ودولي، وأن يكون همها التقيد بالأسس والمبادئ الإسلامية على ضوء ما أقرت به الشريعة وعلى ضوء الإجتهادات المعاصرة لكبار علماء الدين المعتمدين لديها. حتى يتحقق ذلك يجب أن تكون هذه المرجعية العليا للمسلمين وأجهزتها الدينية والإدارية معترف بها دولياً ومستقلة عن أي أنواع التبعية، أشبه ما تكون "بفاتيكان" إسلامي.