لتحديد فيما إذا كان هناك تعارضاً في صلاحيات المرجعية السياسية الأولى للبلاد والمرجعية الدينية العليا للمسلمين في موضوع اختيار رئيس الحكومة " السني"، لا بد من طرح النصوص الدستورية والنصوص التشريعية الممنوحة لكل منهما :
صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية :
المادة 53 – الفقرة 2 :
2- ﯾﺳﻣﻲ رﺋﯾس اﻟﺟﻣﻬورﯾﺔ رﺋﯾس اﻟﺣﻛوﻣﺔ اﻟﻣﻛﻠف ﺑﺎﻟﺗﺷﺎور ﻣﻊ رﺋﯾس ﻣﺟﻠس اﻟﻧواب اﺳﺗﻧﺎداً إﻟﻰ اﺳﺗﺷﺎرات ﻧﯾﺎﺑﯾﺔ ﻣﻠزﻣﺔ ﯾطﻠﻌﻪ رﺳﻣﯾﺎً ﻋﻠﻰ ﻧﺗﺎﺋﺟﻬﺎ.
3- ﯾﺻدر ﻣرﺳوم ﺗﺳﻣﯾﺔ رﺋﯾس ﻣﺟﻠس اﻟوزراء ﻣﻧﻔرداً .
4 - ﯾﺻدر ﺑﺎﻻﺗﻔﺎق ﻣﻊ رﺋﯾس ﻣﺟﻠس اﻟوزراء ﻣرﺳوم ﺗﺷﻛﯾل اﻟﺣﻛوﻣﺔ وﻣراﺳﯾم ﻗﺑول اﺳﺗﻘﺎﻟﺔ اﻟوزراء أو إﻗﺎﻟﺗﻬم 4 .
5- ﯾﺻدر ﻣﻧﻔرداً اﻟﻣراﺳﯾم ﺑﻘﺑول اﺳﺗﻘﺎﻟﺔ اﻟﺣﻛوﻣﺔ أو اﻋﺗﺑﺎرﻫﺎ ﻣﺳﺗﻘﯾﻠﺔ
صفة وصلاحيات مفتي الجمهورية في المرسوم الإشتراعي رقم 18 لسنة 1955
المادة 1- الطائفة الاسلامية السنية مستقلة في شؤونها الدينية واوقافها الخيرية تتولى تنظيمها وادارتها بنفسها طبقا لاحكام الشريعة الغراء والقوانين والانظمة المستمدة منها بواسطة ممثلين من ذوي الكفاءة واهل الرأي من ابنائها تختارهم بالطرق المبينة في المواد التالية، يعملون باسمها ويتكلمون بلسانها في الشؤون المذكورة آنفا.
المادة 2 - رئيس الطائفة الديني وممثلها بهذا الوصف لدى السلطات العامة، هو مفتي الجمهورية وله ذات الحرمة والحقوق والامتيازات التي يتمتع بها رؤساء سائر الاديان بلا تخصيص ولا استثناء.
بمقارنة النصين لا يوجد تعارض بين صلاحيات رئيس الجمهورية وبين صلاحيات مفتي الجمهورية، فالأول ﯾﺳﻣﻲ رﺋﯾس اﻟﺣﻛوﻣﺔ اﻟﻣﻛﻠف ﺑﺎﻟﺗﺷﺎور ﻣﻊ رﺋﯾس ﻣﺟﻠس اﻟﻧواب اﺳﺗﻧﺎداً إﻟﻰ اﺳﺗﺷﺎرات ﻧﯾﺎﺑﯾﺔ ﻣﻠزﻣﺔ ﯾطﻠﻌﻪ رﺳﻣﯾﺎً ﻋﻠﻰ ﻧﺗﺎﺋﺟﻬﺎ. دستورياً عضو مجلس النواب بمقتضى صفته التمثيلية العامة وفقاً للمادة 27 من الدستور : " يُمّثِل الأُمّة جَمعاء، ولا يَجوز أن تُربَط وكالته بِقَيدٍ أو شَرط من قِبَل مُنتَخبيه". فبقتضى الصلاحيات الدستورية تعتبر نتيجة الاستشارات الملزمة للنواب هي خلاصة إرادة الشعب جمعاء ليكون رئيس الحكومة الفائز هو أكثر المرشحين ملائمة على مستوى الوطن – وليس على مستوى الطائفة - ليكون رئيساً لمجلس وزراء لبنان. بينما نص المرسوم الإشتراعي 18/55 يجعل من مفتي الجمهورية ممثل الطائفة السنية والناطق باسمها لدى السلطات العامة، فما يعبر عنه ليس إلا تصريحاً بأن الطائفة السنية تقترح تسمية من تراه مناسباً "سنياً" لإدارة البلاد.
حتى نفهم اهتمام مفتي الجمهورية بتبنّيه مرشحاً معيناً لرئاسة الحكومة ينبغي أن نأخذ بعين الإعتبار ما يمثله رئيس الحكومة من موقع رئيسي داخل الهيكلية الهرمية للطائفة السنية. فرئيس الحكومة يرأس حكماً هيئة انتخاب مفتي الجمهورية والتي لها صلاحية في إعفائه من منصبه، إضافة إلى أن رئيس الحكومة هو عضو طبيعي في المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى الذي يرأسه مفتي الجمهورية، وبه ترتبط المحاكم الشرعية السنية والجعفرية. إضافة إلى أن موقع رئيس الحكومة كأعلى منصب للطائفة السنية في السلطة التنفيذية يعطيه صفة الرئيس السياسي للمسلمين السنة، باعتبار أن مفتي الجمهورية هو الرئيس الديني للمسلمين.
إضافة الى أن تدخل مفتي الجمهورية في اسماء المرشحين لرئاسة الحكومة أضحى في الفترة الأخيرة ضرورة عاجلة وفورية على أثر المخالفة الدستورية التي ارتكبتها رئاسة الجمهورية في عدم إجراء الإستشارات النيابية الملزمة والإستعاضة عنها بمشاورات فردية مبعثرة، فكان تدخل دار الفتوى لتصويب الخطأ ولو من باب المحاباة لاختيار الرئيس سعد الحريري ليكون المرشح الأفضل الذي ترتضيه الطائفة السنية - إن لم نقل مفتي الجمهورية بالذات - لتبوأ هذا المنصب.
فبالرجوع الى روح الدستور التي يستنبطها كل ذو عقل راجح عند قراءته للنصوص الحاكمة بموضوع الإستشارات النيابية الإلزامية، يجد بأن إهمال ذكر المهل لا تعني البتة بأن لرئيس الجمهورية صلاحية استغلال هذا الفراغ والتمادي في تأخير هذه الإستشارات بحجج واهية وغير صريحة، لأن منطق الأمور أن يبادر أي شخص في موقع المسؤولية الى إيجاد الحلول السريعة والضرورية من أجل الحيلولة دون تفاقم الأخطار المحدقة التي تهدد كل ما هو معرض للإلغاء أو آيل للسقوط، وإلا اعتبر تصرف المتهاون والمتراخي عن إيجاد الحلول السريعة من قبيل المماطلة التي تعرضه للمسؤولية وللمحاسبة، فما بالك بأن يكون هذا الشخص في موقع المسؤول الأول في الدولة الذي أقسم على احترام الدستور والإذعان له، إضافة الى أن هذا الخطر الذي يراد استبعاده بات يهدد الدولة بكل مرافقها وينال من اقتصادها ومن لقمة عيش اللبنانيين. بنفس هذا المعنى يوضح المرجع الدستوري الوزير والنائب السابق إدمون رزق، الذي شارك في صَياغة "اتفاق الطائف"، في مقابلة صحفية، "أننا لم نحدّد مهلاً لهذا المسار لأننا افترضنا أنّ الأمور البديهية لا تحتاج الى فَرض، إذ إنّ مناقبية الحكم وحسّ المسؤولية يجب أن يحكما التصرفات والأداء. ولم يفترض المُشرّع أنّ أحداً من المسؤولين سيعمد الى تضييع الوقت، خصوصاً في الأزمات" ».
هذه المماطلة غير البريئة إدت الى استعار الجدل بين فئتين : الأولى منهما تعتبر أنّ من صلاحية رئيس الجمهورية إجراء مشاورات قبل الاستشارات النيابية، والثانية منهما تعتبر هذا التصرف تعدياً على صلاحيات رئيس الحكومة الجديد في التأليف. لدحض رأي الفئة الأولى فإن منطق الأمور يقول بأن من صلاحية رئيس الجمهورية إجراء أي مشاورات وحوارات ولقاءات يومية سواء في موضوع الحكومة أو غيرها، ولكن نتائج هذه المشاورات إن كانت بهدف تشكيل الحكومة وتسمية أعضاءها وتوزيعها على الكتل والأحزاب، لن يكون لها قيمة على أرض الواقع ولن تكون لها نتائج فعلية وعملية لمخالفتها مبدأ دستوري واضح وصريح، وإن كانت لها نتائج في ذهن رئيس الجمهورية ومستشاريه إلا أنها تبقى حبراً على ورق ما دام لم يسبقها استشارات نيابية ملزمة تؤدي بنتيجتها الى تسمية رئيس حكومة واختيار الوزراء بالتشاور والتنسيق ما بين الرئاستين الأولى والثالثة. دون أن ننسى بأن التعديلات الدستورية الأساسية التي اتفق عليها في الطائف تناولت الحد من صلاحية رئيس الجمهورية في تسمية رئيس الحكومة، واعتمدت بديلاً عنها مبدأ الاستشارات النيابية المُلزمة. فتحول النظام اللبناني من نظام رئاسي الى نظام برلماني، إضافة إلى اعتبارين أساسيين في هذا التعديل : الأول منهما أن رئيس الجمهورية لا ينتخب من قبل الشعب مباشرة بل ينتخبه النواب، والإعتبار الثاني إنّ رئيس الجمهورية ينتمي الى طائفة محدّدة، ويجب أن لا يفرض رئيساً للحكومة ينتمي الى طائفة أساسية في المكون اللبناني.
وقد أدى الإخلال بهذا المبدأ الدستوري الأساسي والصريح أن تعالت الأصوات من كل حدب وصوب مطالبة بتصحيح هذا الخلل. وما استتبع هذه النداءات من قطع الطرق والنزول الى الشوارع والإحتجاجات التي انتشرت في كل المناطق اللبنانية والتي تعتبر في قواميس الحراكات الشعبية واستطلاعات الرأي رفضاً قاطعاً للمنحى الذي اتبعه رئيس الجمهورية ومستشاروه بهذا الخصوص. وهذا ما استدعى تدخل دار الفتوى بعد طول انتظار واتهامها بالتباطؤ وعدم الإكتراث بالوضع الدقيق والحرج الذي تمر به البلاد، فتم حينها استدعاء المرشح المحتمل لرئاسة الحكومة السيد سمير الخطيب الذي صرح بعد مقابلته مفتي الجمهورية بأنه نتيجة للمشاورات التي أجراها مفتي الجمهورية على صعيد الطائفة فإن المرشح الذي تدعمه الطائفة السنية أوعلى وجه الدقة مفتي الجمهورية شخصياً هو الرئيس سعد الحريري.
وأيا كان هذا التدخل من قبل دار الفتوى إلا أنه لم يكن على قدر الآمال التي التي أرادها المسلمون وتداعوا اليها لمطالبة مفتي الجمهورية بدعوة المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى بمن فيهم الأعضاء الطبيعيين وهم رؤساء الحكومات السابقين، وكافة نواب السنة والوزراء السنة الحاليين والسابقين، على أن يصدر في نهاية هذا الاجتماع بيانا شديد اللهجة يدعو الى استشارات نيابية فورية يتمخض عنها اختيار رئيس الحكومة ويتبعه تشكيل أعضاء الحكومة ﺑﺎﻻﺗﻔﺎق بين رﺋﯾس الجمهورية ورئيس الحكومة الفائز. ولا ضير بعد ذلك في أن يتضمن هذا البيان اقتراح إسماً سنياً يرونه أكثر ملائمة في الظروف الحالية من غيره من الراغبين في الوصول الى موقع الرئاسة الثالثة. على أن تكون الكلمة الأخيرة وفق أحكام الدستورهي نتيجة الاستشارات النيابية التي تقرر من يصل أخيراً الى رئاسة الحكومة من الشخصيات السنية التي تذخر بالكفاءات العالية لتبوأ هذا المنصب.