في حمأة لهيب تموز، وبثّ أصناف من التشاؤم أو التفاؤل حول ميزان التأليف الحكومي، وفي اليوم الذي تنعقد فيه قمّة «المال والمطامع الاقتصادية وصرف النفوذ العام والشخصي» في هلسنكي بين مهووس النقد ومخترع العداوات دونالد ترامب (وهو في المناسبة الرئيس الأميركي الحالي) ومهووس المصارعة مع الهررة والأسود، والمعشوق من النساء الموصوفات روسيات أو زوجات رؤساء وقادة حول العالم، فلاديمير بوتين، الذي يقبض على مفاصل الصراعات في سوريا وآسيا الإسلامية امتداداً إلى القرم والبلقان وامبراطورية جدّه الأكبر (وداعاً للشيوعية)، ارتأيت ان اقترب وأبتعد في الآن نفسه من يوميات لبنانية، يكاد يتلاشى الاهتمام فيها، على وقع التهم المتبادلة عبر «التويتر» والتلفزيونات بين اللاعبين المحليين، بأدوار محلية أو إقليمية أو ربما أبعد (اسألوا الرئيس نبيه برّي هو يعرف أكثر من سواه) ارتأيت أن اهتم بأمرين: الأول يتعلق بما نقل عن الرئيس برّي، وهو زعيم حركة «امل» ورئيس مجلس النواب، والشخصية الأكثر نفوذاً في السياسة والإدارة والحكم، ويتعلق برغبة لديه بأن ينقل أحد المقربين منه، بالتعاون مع أحد المقربين من الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله إلى قادة الأجهزة الأمنية، لا سيما إلى المدير العام لقوى الأمن الداخلي انهما بعد اليوم (ولمناسبة دورة للتطويع في قوى الأمن) لن يقبلا، وهما حركة «امل» و«حزب الله» أو ما يعرف «بالثنائي الشيعي» بغير فوز الناجحين في المباراة، وفقا للترتيب، وليس وفقا للوائح تأتي من هذا المسؤول أو ذاك وهذا الحزب وذاك التيار تحمل أسماء المرغوب بهم من طائفة الحزب أو التيار، وإذا لم يكن بالإمكان أن يسري هذا الطلب على الجميع فليكن على حصة الشيعة فقط في المقبولين من هذه الطائفة..
والأمر الثاني يتعلق بالإفراج عن نتائج الطلاب المقبولين لمتابعة الدراسات العليا، من الماستر إلى الدكتوراه في بعض الكليات والمعاهد العليا لهذه الشهادات، والتي تشكّل تطوراً كبيراً في إفساح المجال أمام الطلبة اللبنانيين والعرب وحتى الأجانب في الحصول على الشهادات العليا بعد الإجازة، في نظام الـL.M.D الذي تعتمده الجامعة، وهي «الماستر والدكتوراه».
ولا حاجة لشرح أسباب الاهتمام، فالقضية تتعلق بتوفير سبل آمنة أمام جماهير «الشباب والشابات» الباحثين عن فرص عمل أو فرص نجاح في بلد يتدمّر اقتصاده، وتتدمّر بناه التحتية أو تتآكل، وتتكالب الطبقة السياسية الحاكمة أو الأوليغارشيّة على جثث ما تبقى من مكاسب أو مغانم، حتى ولو كانت وظيفة دركي متمرن، أو مأمور في أمن الدولة أو الأمن العام، أو حتى جندي، يحمل دمه على كفه في الملمات والمهمات الصعبة، أو طالب متهالك علمياً على حساب طالب واعد على هذا الصعيد..
بالنسبة للأمر الأوّل، قابلت بارتياح، كما قابل سواي من المهتمين بالشأن العام «قرار الثنائي» الشيعي، لا سيما بعد ان دخلت كتلة الوفاء للمقاومة على الخط، وأذاعت في بيانها الدعوة إلى الابتعاد عن المحسوبية، والتبجح على خلفية الولاء السياسي والطائفي والمذهبي، وافساح المجال امام الكفاءة والفوز في المباراة، واعتبار هذين الحدّين هما المعيار للفوز، بصرف النظر عن العدد. وكان نواب من الكتلة أو اصدقاء لها (النائبان الوليد سكرية وجميل السيّد على سبيل المثال) اثاروا ما اعتبروه سابقة خطيرة بتقاسم المقبولين في دورة أمن الدولة الأخيرة وفقاً للوائح رئاسية رسمية مسؤولة.
كان من شأن «التوجه الشيعي» الذي هو قيد المراقبة، لمعرفة إمكان تحويله إلى نهج دائم أم لا، ان يُعيد الاعتبار إلى المادة 12 من الدستور، التي تنص في الفقرة الأولى على: «لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة، لا ميّزة لأحد على الآخر إلَّا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون».
ومن المؤكّد ان هذا التوجه، المرحّب به تكراراً، والذي يقطع مع مرحلة مقولة «ع السكين يا بطيخ» المشهورة، جاء على خلفية نتائج الانتخابات النيابية، وعزوف الجمهور الشيعي عن إعطاء أصواته لمرشحين معروفين، لولا التدخل الهائل، للسيد نصر الله، الذي قدّم حزبه مئات الشهداء في مسيرة التحرير ومكافحة التكفير والإرهاب.. ويلاقي تعاطفاً قوياً في ساحة هذا الجمهور...
ومع ذلك، فإذا صحت الخطوة الشيعية، فإن بعضاً من الأمل، يجعل الشاب اللبناني، بمعزل عن طائفته، يطمئن إلى بعض حقوقه، التي يكتسبها من قوة الانتماء لوطن، وقوة الدستور الذي يمنحه حق ان يكون مواطناً على قدم المساواة، لا يموت فقط، أو يحسن الولاء، بل يتحزب من دون ان يكون تحزبه هو الطريق إلى الوظيفة أو إلى العمل.
في تبريرات الخطوة الشيعية التي ما تزال توجهاً، ولم تنجز بعد أن 40.000 شاب مسلم تقدموا إلى دورة الدرك، والحاجة إلى مائة أو مائتين أو أكثر أو أقل فقط، فإذا جاءت بهذا العدد اللوائح الرسمية، الإسمية، فما هو مصير الباقين، وهم ألوف مؤلفة، وما هو موقف عائلاتهم، وذويهم، وأهلهم، وقراهم.
قد تكون الخطوة، التي هي في دائرة الضوء، مطلوبة، وتدخل في سياق مكافحة الفساد التي تعتبر الشرط الأوّل لمنع وقوع الهيكل على رؤوس أصحابه، بعد التجربة الناجحة للزعيمة الكرواتية التي لعبت بالممارسة على الأرض دوراً في التصدّي له، واتخذت، وهي في رئاسة الجمهورية إجراءات للحد من الهدر المالي، ومواجهة الفساد، لدرجة استئصاله، وهي من هذا الموقع أوصلت منتخبها الرياضي في «مونديال موسكو» إلى العالمية، وربما إلى الفوز في كأس العالم في مواجهة فرنسا ماكرون.. لكن الحظ لم يحالف فريقها هذه المرة.
قد تكون تجربة «الانتفاضة في البصرة»، علامة على ان الوضع لا يُمكن ان يستمر كامناً، تحت علاجات «الإسبرين» و«البندول»، وحتى المخدرات الكلامية، ولا تنفع معه الاتهامات بالشغب، أو لولاء للخارج أو أية تهم أخرى.
أمَّا بالنسبة للأمر الثاني، وهو على صلة مباشرة وغير مباشرة بالأمر الأول، فإن نتائج القبول أطاحت إلى حدّ كبير بالأعراف الجامعية والأكاديمية، لا سيما في الجامعة اللبنانية، التي هي جامعة الفقراء، والتي أفسحت المجال امام أبناء الأسر الكادحة والفقيرة، وحتى شبه الميسورة من ان يتخرج أبناؤها أطباء أو مهندسين أو علماء، كانت الجامعة تفاخر بهم ولا تزال.
إلَّا ان الذي طرأ ان الجامعة الوطنية التي تتعرض لحملة ظالمة في أحيان كثيرة، تطال رئيسها أو حتى بعض عمدائها ومديري كلياتها عن غير وجه حق، انتقل إليها الداء عينه الذي انتقل إلى سائر المؤسسات الأمنية والمدنية في الدولة.. وراحت المواقع والمناصب، وحتى التوظيفات تقاس بالولاء، وتقاس ببراعة هذا المسؤول الأكاديمي أو ذاك في تطويع القوانين والأعراف لخدمة من أتى به إلى منصبه، والمفترض ان يبلغه بقوة الكفاءة والتفاني في سبيل المصلحة العلمية والجامعية..
يتهامس الطلاب المقبولون والمرفوضون في أحد المعاهد العليا للدكتوراه اللبنانية عن تقاسم حصص طائفية ونفوذ سياسي وحزبي، ومنافع موضعية، بعضها دنيء لبعض الأساتذة المتقاعدين، والمستقدمين (على طريقة استقدام المرتزقة في الحروب، أو جماعات الوكالات الأمنية Black Water)، لظلم فلان أو فلانة أو نصرة فلان أو فلانة من أصحاب الحظ السيئ أو الحظوة أو حسن الطالع الطائفي، أو الحزبي، أو النفوذي..
تروي الطالبة هدى محمود سليمان (المدن الالكترونية قبل عشرة أيام) ما حصل معها في قسم اللغة العربية، بعد نيلها الشهادة (الماستر بدرجة جيد جداً) كيف تفاجأت برفض طلبها بعد ان قبلت من اللجنة التحكيمية التي أجرت معها مقابلة شفهية في شريط نشرته على (الفايسبوك) ان الانتقاء يكون طائفياً لمراعاة التوازن في البلد.. وتتساءل عن المعايير العلمية، ونناشد رئيس الجامعة التدخل.. (من الظلم ان نسحب حديث الطالبة على الأقسام جميعها في المعهد العالي للدكتوراه الذي تقدمت إليه الطالبة، ولم تذكر اسمه).
إلا ان الثابت ان «لوائح اسمية» تنقى (أي تختار) قبل المقابلات والتحكيم، وعلى أساسها تتم المقابلة، أو دراسة الملف أو التحكيم، وتراعى الاعتبارات جميعها باستثناء «المعايير العلمية». (هذا على الأقل ما يرويه أساتذة وطلاب مروا بمحنة اللجنة أو اللجان)..
في بعض الأقسام (كالفنون والرسم المعماري أو الهندسة المعمارية) ولا ادري كيف يكون الفن علماً (هذه مسألة مشكوك بها أو مؤشكلة؟!) تسود الفوضى، ويغرق المعني وهو «المشهور بـكذبه» باستنسابية غير مسبوقة تدخل فيها الاعتبارات الشخصية وغير الشخصية، تحت وابل من الادعاءات الفارغة والدجل العلمي، والاستنسابية الرخيصة، حتى ولو جاءت الاستعانة «بمُحكّم» تافه لا شروط علمية في ملفه، محكوم بالاستعلاء، وكراهية الآخرين، والاستمتاع بظلمهم، ومن المؤكد ان جفاء بينه وبين العدل، وانتماء مؤكداً ايضا إلى الحقد والقدح والذم.. والأيام كفيلة بكشفه ولا ريب..
وبين الامرين: الأوّل والثاني، علاقة رحم ونسب، والمعالجة تكون قيصرية أو لا تكون.. وللبحث صلة، في كلا الأمرين معاً، قبل انتفاضة البصرة وبعدها وقبل خراب البصرة وبعدها.. وقبل تأليف الحكومة وبعدها، وحتى قبل قمّة «الجبارين» ونتائج «المونديال».. والعلاقات الحميمة في أحد فنادق هلسنكي التاريخية؟!