29 كانون الثاني 2024 04:38م خروج العرب من التاريخ ..؟!

حجم الخط
أيمن عبيد 
 بات واضحا ان ادارة جو بايدن، ومع دخول حرب "السيوف الحديدية" التي تشنها اسرائيل في قطاع غزة، ردا على عملية "طوفان الأقصى" الحمساوية، شهرها الرابع على التوالي، لم ينفد صبرها بعد، خلافا لما يطفو على السطح من أجواء توحي عكس ذلك، في قدرة "سيوف اسرائيل" على تحقيق انتصار حاسم وناجز. وذلك بالرغم من ثبوت الاخفاق الاسرائيلى حتى اللحظة في ادراك الأهداف الميدانية المعلن عنها؛ وعلى رأسها القضاء على حماس، واستعادة الأسرى المحتجزين لديها . 
 ولعله قد يسجل للمرة الأولى، في تاريخ العلاقات الأميركية الاسرائيلية، ان رئيسا أميركيا يصل في مقام دعمه تل أبيب، حد امتيازه، في هذه الخصيصة الرئاسية التقليدية، على معظم من سبقوه في سدة الرئاسة الأميركية، منذ قيام الدولة الاسرائيلية في 1948.
 من هذا المنطلق. يجدر التوقف بكثير من الحذر ازاء ما يروج، في الآونة الأخيرة، حول بدء التراجع في وتيرة الدعم الأميركي المفتوح على مصراعيه. بهدف الضغط على اسرائيل لوقف حربها الضروس في غزة، بعدما أوقعت حتى الآن ما يقارب 25 ألفا من المدنيين. عدا عما يصعب استيعابه من جسامة دمار لا يبقي ولا يذر .  ذلك ان ما يدل إليه سياق الأحداث، معطوفا على ما يرد في تقارير منشورة بصحف ومواقع عبرية مقربة من دوائر القرار في السياسة الأميركية، يؤكد بقاء ادارة بايدن في مربع دعمها المفتوح ذاك، ما بقيت حكومة الحرب في اسرائيل، ماضية في مسارات الحسم العسكري، ولو نجم عن ذلك سقوط وانحلال سمعة أميركا الأخلاقية والسياسية والحقوقية، تحت أنقاض غزة ودمارها. الأمر الذي لا نجد ازاءه بدا، على ضوء ما يتسرب من كواليس وخلفيات العلاقة الأميركية الاسرائيلية، في خضم الحرب المشتعلة، من طرح سؤال ما كان له من وجاهة ولا مشروعية، لولا ما يبدو انه أبعد من لحظة نزق طارئة أو جرعة تمرد اسرائيلية ضد واشنطن عابرة المفعول. انها، فيما يبدو، جرعة تمرد من الدرجة والنوع اللذان يدفعان بنا دفعا للتجرأ على السؤال: من يقود الآخر الآن؟ أميركا تقود اسرائيل، على ما هو متداول وثابت في العقل السياسي العربي والدولي، أم اننا نشهد حقيقة ما يمكن اعتباره خروجا نوعيا  على مرتكزات وثوابت التصور التقليدي الثابت . إذ تبدو اسرائيل كما لو انها تفرض خياراتها فرضا على الدولة الأولى في العالم. بل وتحدد لها، على غرار ما تشي به حرب غزة وتطوراتها، ايقاع ومنسوب، ومحتوى الدعم والاسناد، دون الالتزام بأي وعود أو مطالب، تقول الادارة في واشنطن، أو هكذا توحي، انها تضغط لإقناع اسرائيل بها، في اطار البحث عن حلول للخروج من المأزق الراهن. 
 ما سبق لا يعدو كونه رصد عام، أو لعله انطباع أولي ربما يشكل حافزا يدعونا في مقال لاحق الى تناول أعمق لواقع ومآلات العلاقة التماوجة بين الطرفين، على وقع تموجات الحرب في غزة. ومدى نجاح الاسرائيليين في مطابقة دفتها على هوى حساباتهم؛ وتحديدا في ظل ادارة ديموقراطية لا يخفي رئيس الوزراء الاسرائيلي نظرته الى رئيسها بوصفه رجل ضعيف لا يحوز من أوراق القوة والتأثير ما يجبره على الاستماع الى صوت العقل. واسكات دوي آلته الحربية الموغلة في تدميريتها، بشرا وحجرا .  هكذا اذن يرتسم الانطباع السياسي المأخوذ عن ساكن البيت الأبيض، بنظر رئيس وزراء اسرائيل، وفقا لتسريبات اعلامية اسرائيلية.
 وبغض النظر عن دقة هذه التسريبات من عدمها، والتي ربما تأتي في سياق تظهير نتنياهو أمام الرأي العام الاسرائيلى، المشحون والمطالب في غالبيته باستمرار الحرب، في صورة الرجل القادر على متابعة الانتقام من منفذي عملية "الطوفان". رغما عن أي ضغوط حتى ولو كانت أميركية المصدر، فإن جوهر ما يعنينا هنا ان بايدن، فضلا عن  انه لم يكتف بالإقلاع عن اظهار الجدية المسؤولة في ممارسته ضغطا حقيقيا على القيادة الاسرائيلية لثنيها عن المضي في سيناريوهاتها العسكرية، وافساح المجال للنظر في ما يمكن ان تنتجه مبادرات سياسية لفتح مخارج عاجلة في جدار واحدة من أخطر الأزمات التي يواجهها هو نفسه خلال ولايته الرئاسية. لا يفتأ يحاول جاهدا من خلال جولات موفديه في المنطقة، تسويق "طبخة" أميركية للحل. بنكهة اسرائيلية خالصة. تمر طبخة الحل الجاهزة هذه لدى بايدن، بحسب ما كشفت عنه صحيفة "وول ستريت جورنال"، عبر تهجير ما يقرب من نصف سكان غزة الى ثلاث دول عربية رئيسية. وتسليم القطاع المدمر، بعيد وقف اطلاق النار،  الى ادارة عربية اسلامية مشتركة تتولى هندسة القطاع أمنيا وتفريغه من أي تواجد لحركات أو فصائل مسلحة، قبل ان يعاد تسليمه لاحقا الى كنف السلطة الفلسطينية، حيث تشرف بدورها على اعادة اعماره. وتسيير شؤونه، كما كان الوضع قبل سيطرة حماس عليه.  ورغم ان الدول العربية الثلاث المعنية (مصر، الأردن، والسعودية) لا تزال حتى اللحظة على موقفها الرافض مناقشة مثل هذه الأفكار . وبالأخص فكرة افراغ القطاع من سكانه. لا يكل رسل بايدن ولا يملون من التكرار والإلحاح وتقديم حزم من الإجراءات والإغراءات السياسية والاقتصادية، لعل وعسى!.
 أداء بايدن المنحاز هذا، وان بلغ أمد انحيازه، باعتراف بعض مسؤولي ادارته، حدا  من الغلو غير المسبوق. لا يقع في الأخير خارج مجرى السياسة الأميركية المنحازة تاريخيا لاسرائيل. فهو موقف تقليدي ثابت ومستدام. وان تفاوتت وتيرة الانحياز والأسلوب من ادارة الى أخرى. غير ان الجديد- القديم هنا، يتمثل في ما أمسى عليه، واقعا وفعلا وحجما، تأثير النفوذ المخيف ﻵليات وأدوات اللوبي الاسرائيلي الأميركي على مكامن واتجاهات القرار في السياسة الأميركية. انه النفوذ المتغول الذي بسببه. وتحت شجرته الوارفة الظلال. يجلس نتنياهو مطمئنا، وربما يضحك ملء شدقيه سخرية وشفقة في آن، وهو يتابع مؤخرا جولات الوفد المنبثق عن القمة العربية الاسلامية، في واشنطن، سعيا لتدخل أميركي ضاغط كي تعيد اسرائيل سيوفها المتفلتة على غزة ومدنييها العزل الى غمدها. وهو لا شك التأثير نفسه. والقوة العليا ذاتها التي تجعل نتنياهو مطلق الثقة، بأن تصريحات بايدن "العنترية" التي تحضه على  ضرورة تغيير سلوكه وانخراطه في مسار حل الدولتين. لا تعدو كونها زوبعة في فنجان رئيس يقف على مسافة أشهر من خوض انتخابات الرئاسة، طلبا لتجديد ولايته لمرة ثانية، حيث الحاجة الى استرضاء ومراعاة وتغطية اللوبي الاسرائيلي، تبقى في صدارة أولوياته. وعليه، فليس من الحكمة في شيء، بل لعله من دروب العبث، توقع ان يقدم بايدن على إحداث تغيير يعول عليه عربيا، في مسار موقفه من الأزمة الحالية. إلا إذا .. استلحق الموقف العربي نفسه وانتفض على أدائه ومفرداته وأدواته. متقدما نحو خيارات أكثر نوعية. عوضا عن ذلك التمترس العقيم خلف خطاب المناشدات وانتظار ما لا يأتي من المواقف الأميركية والأوروبية الضاغطة بالفعل لا بالقول على اسرائيل. ان غزة وما يدور فيها وعليها، وبعيدا عن الجدل الدائر، في غير وقته، بشأن حماس وأجندتها وخياراتها، وانقسام المواقف حول الخلفيات والدوافع التي تقف وراء طوفان 7 أكتوير- تشرين الأول 23، تبقى مسألة عربية في الدرجة الأولى. أو هكذا يفترض أن تكون. وليس بإمكان العرب، وهم المعنيون مباشرة قبل أي طرف آخر، بما قد تسفر عنه فصول التراجيديا الغزية من ترسيمات ونتائج يتوقع ان تلقي بظلال ثقيلة على حاضر المنطقة ومستقبلها لأمد غير معلوم .. ليس بإمكانهم التنصل أو الاكتفاء بدور وظيفي عابر ومحصور في اطار الوساطة من أجل تسهيل عمليات تبادل الأسرى وإدخال المساعدات الى غزة. 
 ان دورا كهذا، على ما قد يسهم به في التخفيف بدرجة ما من معاناة الغزيين الغائرة، لا يعد دليل عافية وفاعلية عربية، قدر ما هو برهان جديد على مدى ولوغ العرب في استمرائهم حال الغياب والاغتراب عن حيازتهم زمام البوصلة والمبادرة والقرارات النوعية، دفاعا عن مصالحهم الاستراتيجية المهددة وقضاياهم القومية المستباحة، وقد تركت نهبا لأفرقاء اقليميين يتاجرون بها صبحا ومساء. يسرحون ويمرحون، كيفما يحلو لهم، على بساط المنطقة. فيشيدون لأنفسهم مواطئ نفوذ . ومراكمة أرصدة ومكاسب سياسية واستراتيجية تكاد ان تحيلهم مقررا نافذا بامتياز، في الساحة العربية وعليها. متى هبت رياح التسويات الدولية الكبرى على أرض المنطقة. 
 ومع ذلك، لم يزل في حوزة العرب أوراق كثيرة بعد . بل ان ما لديهم من أوراق القوة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والاستراتيجية المعطلة، كفيل بإحداث انقلاب في موازين السياسة الدولية. واجبار الفرقاء الدوليين، والأميركيون في طليعتهم، على مراجعة حساباتهم واعتماد مواقف أكثر رشادة وموضوعية، في ما يتعلق بالمجزرة المفتوحة في غزة، وفي غيرها من قضايا وملفات تطال شؤون المنطقة وشجونها.  ان خاتمة الحرب في غزة، وحيث يجهد طرف اقليمي، بكل أوتي من أذرع تعبث في ساحات المنطقة؛ للاستثمار فيها واضافتها الى سلة مكاسبه وأوراقه التفاوضية السرية والعلنية مع الادارة الأميركية، آتية لا ريب فيها. ولو تأخر الميقات. والخوف كل الخوف، اذا ما وضعت الحرب أوزارها وانقشع غبارها الدامي عن خروجين صاعقين: خروج غزة كمكان يصلح للعيش والسكن والاجتماع الانساني بعد كل ما طالها من خراب عميم؛ وخروج العرب أنفسهم، طوعا أو رغما عنهم، من ذاكرة الجغرافيا .. ومذاكرات التاريخ ! 
كاتب مصري