بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 تموز 2020 12:00م أوصى بهم خيرًا ورحل.. «طبيب الغلابة» يؤرّخ نصف قرن من الإنسانيّة

حجم الخط

بعد نصف قرن من مساندة الفقراء في مصر، رحل "طبيب الغلابة" محمد مشالي، عن عمر يناهز 76 عامًا، تاركًا وراءه سيرة مفعمة بالعطاء والحبّ، فعمّ الحزن بوفاته قلوب كلّ من سمع قصّته، بعدما بات رمزًا للنزاهة والإيثار، بل وللإنسانيّة.

عمل مشالي على علاج الفقراء في عياداته الطبيّة الثلاث، إلى جانب المناصب الحكوميّة التي شغلها حتى خروجه إلى سنّ التقاعد في منتصف العقد الأول من الألفيّة الجديدة، ليتفرغ بشكل تامّ لعلاج المرضى البسطاء في عياداته في "طنطا" و"محلة روح" و"شبشير"، بسعر رمزيّ يبلغ 10 جنيهات (الدولار الأميركيّ يعادل نحو 16 جنيهًا مصريًا)، بالإضافة إلى الكشف مجانًا لغير القادرين، بل وكان يدفع من جيبه الخاص للمرضى لشراء الدواء.


أحداث مهمّة في حياته

تعدّدت الروايات حول سبب تكريس مشالي حياته لعلاج الفقراء، من أبرزها أنّ ذلك جاء تنفيذًا لوصية والده، بينما قالت رواية أخرى إنّ ما دفعه لذلك وفاة طفل بين يديه، بسب عجز أسرته عن شراء الدواء.

فقد ذكر مشالي أنّه تعرض لأحداث مهمّة في حياته، جعلته يكرّس حياته لخدمة المرضى الفقراء، إذ قال في إحدى المرّات إنّه اكتشف بعد تخرجه أنّ والده ضحّى بتكاليف علاجه ليجعل منه طبيبًا، "فعاهدت الله ألا آخذ قرشًا واحدًا من فقير أو معدوم".

كذلك في قصّة مأساويّة أخرى، روى مشالي، في أحد اللقاءات الإعلاميّة، قصة طفل جعله يقرر أن يكون طبيبًا للغلابة إلى آخر يوم في عمره.

إذ تحدّث الطبيب الراحل عن تلك الواقعة وهو يبكي، قائلًا إنّه شاهد بعينه أثناء عمله في إحدى الوحدات الصحیّة في قرية فقیرة، في بدايات حياته، طفلًا صغیرًا لا يتعدى عمره 10 سنوات مریض بمرض السكر مع والدته وهو یبكي من الألم، وطلب منها أن تعطيه حقنة الأنسولین، فردّت أم الطفل: "يا بني لو جبتلك حقنة الإنسولين إخواتك مش هيتعشّوا، يدوبك الفلوس على أد العيش والطعمية بتوع العشا، فالولد طلع فوق السطوح وحرق نفسه وهو بيموت قالها يا ماما أنا عملت كدة عشان أوفر حق حقنة الإنسولين لأخواتي"، وأضاف مشالي "رحت جبت البطانية وحضنته، طلعت روحه في إيدي".

كذلك قال الطبيب الراحل إنّ الفقراء كانوا يصابون بأمراض مرتبطة بالفقر وبعملهم في الزراعة، مثل البلهارسيا والإنكلستوما والإميبا، وكانوا لا يملكون ثمن الكشف عند الأطباء فتطوع لعلاجهم من هذه الأمراض، كما تخصّص في أمراض الأطفال بعد واقعة الطفل الصغير، ناصحًا الأطباء الشباب بخدمة الفقراء وعلاجهم، قائلًا لهم "أوصيكم بالفقراء خيرًا"، وكانت هذه آخر وصاياه، حسبما صرّح نجله وليد مشالي.

"طبيب الغلابة" كشف أيضًا أنّ أساتذته في كلية الطب في القصر العيني، كانوا يقولون لهم من لا يريد امتلاك عمارة أو عزبة فعليه بالعمل في القرى، ليكسب دعوات الفقراء وهذه أعظم المكاسب، مضيفًا أنّه كان يسمع دعوات الغلابة والفقراء له بأذنيه، وكان يتحصّن بها طيلة حياته.

"كان سندًا للفقراء طوال عمره"

في هذا السياق، كشف هاشم محمد، مساعد الدكتور محمد مشالي، في تصريحات صحافيّة، أمس الثلاثاء، أنّ "الطبيب الراحل كان يتمنّى أن يلقى ربّه وهو واقفًا على قدميه، وهو يخدم الغلابة المترددين على عيادته"، مؤكدًا أنّ "الدكتور محمد مشالي سخّر وقته وعمره لخدمة الفقراء وكان ينفّذ وصية والده، بأن يكون عونًا وسندًا للفقراء طوال عمره".

كما ذكرت عزة أبو سريع، حارسة العقار الذي كان يقيم فيه الطبيب، أنّه "كان يعتاد يوميًا على النزول مبكرًا وتوزيع الطعام على الفقراء في الشارع، ثم يعود للمنزل، ليأخذ حقيبته ويتوجه لعيادته، ولكن أول من أمس كان مختلفًا، إذ لم يذهب إلى عيادته بعد واجباته الصباحيّة المعتادة، وعلمت أنّه أصيب بارتفاع في ضغط الدم وتوفي فجر الثلاثاء".

بعدما ظلّ يعمل في صمت لسنوات طويلة، لا ينتظر تكريمًا أو شكورًا، انتبهت وسائل إعلام مصريّة مؤخرًا إلى قصة مشالي، لينال حظًا من الشهرة والتكريم خلال سنوات عمره الأخيرة، ويحوز لقب "طبيب الغلابة"، حيث ألهمت قصة الطبيب المصريين، بعد نشر تفاصيلها على نطاق واسع إلى جانب أفكاره الاستثنائيّة وقناعاته الشخصيّة، في الصحف والبرامج التلفزيونيّة المصريّة والعربيّة.

حياته ونشأته

ولد محمد عبد الغفار مشالي في قرية "ظهر التمساح"، في مركز إيتاي البارود، في محافظة البحيرة، في دلتا مصر عام 1944.انتقل مع أسرته، للإقامة في مدينة طنطا في محافظة الغربية.

التحق مشالي بكلية الطب في جامعة القاهرة، وتخرّج منها عام 1967، متخصصًا في الأمراض الباطنية (الطب العام) والحميات والأطفال.

عمل في بداية حياتة في الريف، متنقلًا بين الوحدات الصحيّة التابعة لوزارة الصحة، وافتتح عيادته الخاصة في مدينة طنطا عام 1975. فكرّس الطبيب حياته لعلاج الفقراء، على مدى أكثر من نصف قرن .

عاش مشالي حياة بسيطة للغاية، وكانت عيادته متواضعة ولم يمتلك سيارة أو هاتفًا محمولًا.

رفض الرجل عروضًا كثيرة بالمساعدات من منظمات خيريّة وأثرياء، للانتقال إلى عيادة أحسن حالًا، وحين قَبِل بعض تلك المساعدات، في مرات نادرة، تبرّع بها إلى الفقراء، واشترى أجهزة طبيّة لإجراء التحاليل الأوليّة الضروريّة لمرضاه.

ساندويتش فول وطعمية

كانت كلمات الطبيب الراحل الأكثر تأثيرًا "نشأت فقيرًا وساندويتش الفول والطعميّة يكفيني، ولا أريد أن أرتدي ملابس بآلاف الجنيهات أو أستقلّ سيارة طولها 10 أمتار".

حزن شديد وكلمات مؤثّرة

نعى عدد كبير من المصريين والعرب أمس، "طبيب الغلابة"، وعلّقوا على وفاته بكلمات مؤثرة تنمّ عن حالة الحب التقدير التي كان يتمتع بها.


فعقب إعلان وفاته، دشّن مغرّدو مواقع التواصل هاشتاغات عبّروا فيها عن حزنهم الشديد وتأثّرهم الكبير لرحيل حالة مصريّة فريدة، تخصّصت في الإيثار، ومساعدة الغير، وحب الخير، وإغاثة وخدمة الفقراء، مؤكدين أنّ الطبيب الراحل حالة نادرة لا تتكرر كثيرًا، ولا يجود بمثلها الزمن إلا نادرًا.

شيخ الأزهر

كما نعى شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، الطبيب الراحل، وقال إنّ مشالي "ضرب المثل في الإنسانيّة، وعلِم يقينًا أنّ الدنيا دار فناء، فآثر مساندة الفقراء والمحتاجين والمرضى حتى في أخر أيام حياته".

تكريم للراحل في المغرب

إلى ذلك، اختار ناشطون في مدينة المحمديّة، المطلة على المحيط الأطلسي، غرب المغرب، أن يكرموا الطبيب المصريّ الراحل، من خلال رسم لوحة جداريّة، في حي "الرشيدية 3"، كُتب إلى جانبها عبارة "طبيب الفقراء"، وتداول مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي الصورة على نطاق واسع.

رحل "طبيب الغلابة" إذًا، تاركًا خلفه ملايين الفقراء والمساكين الذين كانوا يرَون به سبيل الخلاص من عوزهم، بل وطوق نجاة من براثن أمراض تفتك بأجسادهم، في ظلّ عجزهم عن اللجوء إلى عيادات "فخمة" ومستشفيات شهدت أبوابها وفاة مرضى لاذوا إليها هربًا من الألم، فحال المال بينهم وبين دواء بات سعره علّة من عللهم.