يعتقد البعض ان الموسيقار رياض السنباطي ينتمي لـ «مدرسة محمد عبد الوهاب الموسيقية»، وربما بسبب عمل «السنباطي» كعازف عود في فرقة عبد الوهاب لفترة من الزمن، وبالتالي، فقد يكون تأثّر نغماً وغناءً بـ «الأستاذ»، خصوصاً وان زمن إنضمام السنباطي لـ «فرقة عبد الوهاب» الموسيقية تزامن مع «ثورة» هذا الأخير الموسيقية الأولى (1927 - 1934)، إضافة إلى ان «السنباطي» إنضم للأسرة الفنية في ذاك الزمان، بصفة ملحن ومطرب (بعد العام 1934)، مثله مثل محمود الشريف وفريد الأطرش ومحمد فوزي وأحمد صدقي وسواهم، وهؤلاء جميعاً، تركوا بصمات واضحة في مسار الغناء والتلحين، بعد «التغيير» الذي سبق أن أحدثه محمد عبد الوهاب في المجالين...
والموسيقار رياض السنباطي من مواليد 1906، في بلدة «فاسكور» بمحافظة «دمياط»، والتي تضمُّ أيضاً بلدة «سنباط» التي سكنتها الأسرة، ولذا عُرِف بـ «السنباطي»...
أما والده، فهو شيخ جليل، مقريء، وعازف عود، ومطرب، تعوّد الغناء والعزف في الموالد والأفراح والأعياد الدينية، وبذا تفتّحت أذنا الفتى «رياض» على عزف وغناء والده، حتى إذا بلغ التاسعة من عمره، بدأ بمرافقة الأب في جولاته...
وفي صباح أحد الأيام، وكانا عائدين بالقطار، التقيا شيخاً مع إبنته الصبية، وعلى رصيف المحطة تعانق الشيخان، وكانا يعرفان بعضهما، وأيضاً، تمّ التعارف بين الفتى «رياض» والصبية «أم كلثوم»، فكان هذا اللقاء هو الأول بين موهبتين كبيرتين لم يخطر على بال أحد أنهما سيبنيان معاً في القادم من السنين، صرحاً كبيراً من صروح الغناء والتلحين العربيين.
إفترق الشيخان، وكذلك الولدين، وذهب كل منهما في طريقه، حتى إذا ما بلغ «رياض» عمر الـ (20)، التحق بمعهد الموسيقى العربية كتلميذ سيدرس العزف على العود وسيتعلّم أصول غناء الأدوار والموشحات، وبقية أصول الغناء، لكن أغرب ما حدث، هو ان أساتذة هذا المعهد الذي خرّج كبار مطربي وعازفي وملحنّي مصر والوطن العربي، وجدوا في «التلميذ رياض» مقدرة غير مسبوقة تفوق مقدرتهم في مجالي الغناء والعزف على العود، فتمَّ على الفور «ترفيع» الطالب رياض السنباطي إلى رتبة «أستاذ» لمادتي الموشحات والعزف على العود، ولتشاء المصادفة الطيّبة أن يكون الطالب «فريد الأطرش» (المطرب والموسيقار الكبير في ما بعد) أحد أبرز تلامذة الأستاذ رياض السنباطي!!
وتمرُّ الأيام، ويلتقي «الملحن» رياض السنباطي بـ «المطربة» أم كلثوم في العام 1935، في أغنية بعنوان «النوم يداعب عيون حبيبي» وهي من كلمات أحمد رامي، ولتكرّ سبحة الألحان والأغنيات التي ستجمعهما، ولينفرد السنباطي في مرحلة لاحقة بالتلحين لصوت كوكب الشرق، على إثر تزامن خلافها مع كل من الشيخ زكريا أحمد وزميله محمد القصبجي... مع الأول بسبب الخلاف على الأجر، ومع الثاني بحجة «عدم الإقتناع» بالألحان التي قدّمها لها بعد لحن أغنية رائعتهما «رق الحبيب»، فيما الحقيقة في قرار «أم كلثوم» وقف تعاملها مع القصبجي سببه «إنفتاح» الملحن على الموجة الحديثة في ألحانه ومنحها لأسمهان وليلى مراد، وهي ألحان متطوِّرة تخوّفت أم كلثوم منها، ورفضت غناءها...
وعودة إلى السنباطي الذي استمرّ يرافق بألحانه صوت أم كلثوم وصولاً للعام 1950، وفيه انصرف إلى تقديم «أسلوب خاص بالتلحين» لكوكب الشرق، لدرجة اختلط معها «الأسلوب الكلثومي الغنائي» بـ «الأسلوب التلحيني السنباطي»، ومنذ ذاك العام، قدّم رياض السنباطي لسيدة الغناء العربي مختلف مدارس وأنواع الغناء الكلاسيكي، القصير المدى، مثل: على بلدي المحبوب، النوم يداعب عيون حبيبي، حاقابله بكره، إفرح يا قلبي لك نصيب، يا ليلة العيد، ظلموني الناس، وسواها.. والطويل المدى، مثل: غُلُبت أصالح في روحي، يللي كان يشجيك أنيني، يا ظالمني، شمس الأصيل، حيّرت قلبي معاك، هلّت ليالي القمر، سهران لوحدي، أروح لمين، عوّدت عيني على رؤياك، لسّه فاكر، وسواها.. وكل هذه الأغنيات كانت بالعامية، ولكبار شعرائها مثل أحمد رامي، بيرم التونسي، عبد المنعم السباعي، عبد الفتاح مصطفى وسواهم، وصولاً إلى القصائد طويلة المدى، وبالفصحى، مثل: نهج البردة، سلوا قلبي، ولد الهدى (للشاعر أحمد شوقي)، قصة الأمس (للشاعر أحمد فتحي)، رباعيات الخيام (ترجمة أحمد رامي عن قصيدة بالفارسية للشاعر عمر الخيام)، الأطلال (للشاعر إبراهيم ناجي) وغيرها... ولذلك، سجّل رياض السنباطي الرقم الأعلى بالتلحين لأم كلثوم (90 أغنية)..
وعندما رحلت سيّدة الغناء العربي عن هذه الدنيا في 3/2/1975، تساءل محبّوها: ماذا بقي لرياض السنباطي أن يفعل بعد رحيل أم كلثوم؟ ولمن سيلحِّن؟ لتمضي الأيام والسنوات والناس بإنتظار أي جديد لرياض السنباطي، بغير صوت أم كلثوم، وهو الذي سبق وأعطى لعشرات الأصوات في زمن تعاونه مع كوكب الشرق، ومن هؤلاء: عبد الغني السيد، شهرزاد، نور الهدى، سعاد محمد، نجاح سلام، أسمهان، ليلى مراد، نجاة، هدى سلطان، وردة، ميادة الحناوي وسواهم، إلا ان الموسيقار الأستاذ أو الهرم الموسيقي - التلحيني الكبير رياض السنباطي، رحل في 9/9/1981 اثر نوبة «ربو» حادّة، من دون أن يجيب على السؤال... فحياته كلها كانت «أم كلثوم» التي لن يذكر التاريخ أسمها من دون أن يترافق مع إسم رياض السنباطي..
هكذا شاء لهما القدر..
وهكذا كانت مشيئة الخالق سبحانه وتعالى..