بيروت - لبنان

اخر الأخبار

3 كانون الثاني 2021 08:48ص حاتم علي.. درس في الإبداع والتفاني

حجم الخط
منذ عشر سنوات، لم يلتف السوريون أو يتفقوا حول أمر أو حدث ما كما فعلوا حال تلقيهم لخبر وفاة المخرج السوري حاتم علي في القاهرة، إثر أزمة قلبية حادة صبيحة التاسع والعشرين من ديسمبر 2020 .

يوم حزين ختم سنة كونية استثنائية، أضيف إلى سلسلة أحزانهم المتراكمة، ألقى بظلاله الثقيلة عليهم، وبدا شديد الوطأة وصادماً للجميع. لكنهم بعفوية وتقدير شديد لقيمة فقيدهم، تناسوا انقساماتهم السياسية الحادة، وترفعوا لبعض الوقت عن خلافاتهم أمام حضرة الموت، ونعوه بما يليق به من احترام .

لم يختلف أقرانهم العرب في الإجماع على فداحة هذه الخسارة الفنية الكبيرة، وهو الذي ترك أثره الإبداعي على طول وعرض البلدان العربية، وحرص في بعض أعماله الضخمة على استقطاب أبرز الكتّاب والنجوم والخبراء الفنيين فيها، بحيث تمكن إحساس الفقد المشترك من توحيد العرب والسوريين، بإجماع يشبه ما حظي به نجوم أو مبدعون كبار مثل الشاعر نزار قباني وبليغ حمدي وغيرهما.

لم يأت هذا النجاح اعتباطياً أو بضربات الحظ، إذ تمكن حاتم علي (58 عاماً) في تجربته الغزيرة التي امتدت ما يقارب ثلاثة عقود، من تأصيل تجارب أسلافه الأصيلة، وتأسيس هويته الذاتية، عبر صناعة دراما عربية شابة مغايرة، جادة وممتعة، ذات أبعاد عميقة في تأثيرها الوجداني على المتلقي، وجمالية بصرية محترفة، أنيقة ومنضبطة، خالية من البهرجة الاستعراضية المضافة أو غير المبررة.

فضلاً عن رؤية ثقافية ثاقبة بعيدة المدى، أحكمت بموهبة استبصارية، التخطيط بحرص لتنقية المنجَز الإبداعي ما أمكن، من صفة المؤقَّت الآني إلى رحاب الاستدامة، وهو ما تؤكده باستمرار الاستجابة الجماهيرية الكبيرة وردود الفعل، في الإعادة المتكررة لمجمل أعماله على شاشات التلفزة أو عبر المنصات الإلكترونية.

أبرز ما ميز تجربة حاتم علي الإخراجية، وهو أيضاً الممثل والمنتج والكاتب الدرامي وكاتب القصة القصيرة، الذي تخرج ودرّس لاحقاً في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، ارتكازه المحكم على أهم أسس وثوابت الإبداع، وهي جودة النص، وإيمانه بالكلمة التي كانت في البدء.

تعاون مع أبرز الكاتبات والكتّاب السوريين من روائيين وقاصين وشعراء ومسرحيين. ثم وسّع دائرة هاجسه بالنص، واستقطب عدداً من أهم الكتاب العرب أو المحترفين في كتابة السيناريو، مضيفاً إلى جميع النصوص التي حولها بأمانة من المكتوب إلى المرئي، ذائقته الأدبية الخاصة، واقتنص أية فرصة ظهور إعلامي له، لإبداء شديد الاحترام لكاتبه، وللنص المتميز الذي حظي به منه.

الأمر الذي حرض شهية الكتّاب، ودفع بهم للتنافس لتقديم أحدث الأفكار والنصوص وأجودها، بسبب الثقة المتبادلة التي نشأت بين الجانبين، والتوقع المسبق بنجاح العمل إخراجياً وتميزه في معظم الأوقات.

كرّس حاتم علي صفة نجومية المخرج وتمتع بها واستحقها، لعبت فيها كاريزما الشخصية وبراعته كممثل دوراً مضافاً في شهرته، وهو تحول هام في الدراما العربية يتماهى مع مفهوم وقيمة المخرج في عالم السينما العالمية.

حيث تمكن عبر تراكم منجزه الإبداعي، من تغيير النظرة والانجذاب الجماهيري المعتاد لمتابعة أعمال الدراما تبعاً لأسماء النجوم فقط، وتوسيع الرؤية العامة لتشمل دور المخرج ومفهومه، بصفته صانعاً للعمل من ألفه إلى يائه، تقع عليه المسؤولية كاملة، في سوء أو جودة النتائج، المرتبطة بدقة وعلمية المقدمات القائمة على ثوابت المربع الدرامي، نص وممثل ومخرج وإنتاج، مضافا إليها حساسية اختيار الفريق الفني وأهميته.

فيما النقطة الأخيرة المضافة لأهمية ما تقدم، وهي نجاحه في إعادة الاعتبار والجاذبية للدراما التاريخية والتعامل بها بمسؤولية مضاعفة، عبر تدوير زواياها وإبعاد اللغة الخشبية التي رافقتها لسنوات، وتقديمها برؤى ثقافية ومنفتحة جديدة، بصفتها تاريخ "لاتعقيم فيه أو تمجيد خالص لشخوصه، التاريخ الذي يصنعه المنتصرون والأبطال، كما يصنعه المهمّشون والملعونون".

طويلة هي قائمة الأعمال التي خلّفها حاتم علي وراءه كإرث فني ثري، قد تختلف الذائقة في تقييم بعضها والإعجاب أو عدم الإعجاب ببعضها، لكن لا أحد في الحقيقة اختلف يوماً حول أبرز ما قدمه وجاء في ملحمة" التغريبة الفلسطينية" و" ملوك الطوائف" و"العرّاب" بجزئيه، و"عصي الدمع" و" قلم حمرة".

وبانتهاء تجربته الغزيرة والجريئة، يستحق بجدارة شديد الأسف والحزن على رحيله المبكر والتراجيدي، وهو الذي قدم درساً في معنى الشغف بالإبداع، والإخلاص والتفاني والإيمان بجدواه، إذ صقل موهبته بإصرار ومثابرة، وأعاد إنتاجها منطلقاً من فكرٍ مثقف حرّ، وروح جسورة تغلبت بذكاء ومهارة على جميع الرقباء.

المصدر: «الحرة»