مرّت منذ أيام قليلة، الذكرى السنوية الأولى لرحيل الصديقة والزميلة الصحفية، الفنانة «سحر طه» زوجة الصديق الإعلامي سعيد طه..
وإذا كانت ظروف خارجة عن الإرادة، ألزمتني التغيُّب عن احتفال الذكرى الذي أقيم في قاعة «الوست هول» بالجامعة الأميركية - بيروت، ضمن «برنامج زكي ناصيف للموسيقى» بدعوة من «لجنة أصدقاء سحر طه» وحضره حشد كبير من أهل الثقافة والصحافة والإعلام والفن، إضافة إلى «أصحاب الدار»، عمداء الكليات ودكاترة الجامعة، وأصدقاء ومحبّي الزميلة - الفنانة الراحلة، إلّا أن ذكراها الطيبة ما زالت تستوطن العقل والذاكرة، منذ اللقاء الأول الذي جمعنا، وحيث كانت برفقة الزوج يقومان بزيارة مهنية للأخت الحبيبة الحاجة نجاح سلام في منزلها...
كان ذلك في بدايات العام 2000، وحيث أجرت «سحر»، مع صاحبة البيت، حواراً مطوّلاً تناول مختلف مراحل حياة المطربة الكبيرة التي كانت قد أعلنت عن اعتزالها للفن قبل أيام قليلة من اللقاء الذي نشر على يومين متتاليين في صحيفة «المستقبل»..
وبعد الإنتهاء من إجراء الحوار، تحوّلت الجلسة إلى «فنية - غنائية» حيث عزفت «سحر» على العود، وغنّت بعض التراث العراقي البديع، فوجدت كل التشجيع والرضى من المطربة الكبيرة، مع ملاحظات «أدائية» على جوانب قليلة من أسلوب الغناء..
وتمرُّ الأيام، وتنشر الفنانة - الصحفية «سحر طه» موضوعاً قيّماً في صحيفة «المستقبل» حول «الأغنية السعودية» وانطلاقتها من لبنان، تضمن معلومات مميّزة، وإنما غابت عنه بالمقابل، معلومات أساسية كان لا بدّ من حضورها لتكتمل بالفعل حقيقة «إنطلاق الأغنية السعودية من لبنان» وحتى لا تترسّخ في أذهان القرّاء فكرة ان الإنطلاقة كانت منذ العام 1965، فيما هي كانت في العام 1956 وبأغنية «يا ريم وادي ثقيف» التي كتب كلماتها الشاعر الأمير عبد الله الفيصل ولحنها الملحن السعودي الكبير طارق عبد الحكيم وغنتها القديرة نجاح سلام... كما كان لا بدّ من الإشارة إلى مدى انتشار هذه الأغنية، وهي الأولى باللهجة السعودية العربية التي ذاع صيتها في كل الوطن العربي، وبحيث تحوّلت إلى تراث غنائي شعبي، ما شجّع الكثيرين من أهل الغناء في لبنان خصوصاً، والوطن العربي بشكل عام، على التعاطي مع اللون الغنائي السعودي الذي تسيّده لفترة طويلة الفنان السعودي «طلال المداح» ومن بعده زميله الفنان السعودي «محمد عبده»..
كما كان لا بدّ للزميلة العزيزة سحر طه أن تذكر في مقالتها أخبار أوّل مهرجان للأغنية السعودية أقيم في بيروت، وتحديداً في «سينما ستاركو» بحضور السفير السعودي يومذاك (1960) وشخصيات رسمية وجمهور كبير، وكانت أبرز فقراته أغنية «يا ريم» التي غنّتها الكبيرة نجاح سلام..
ولأن كل هذه المعلومات المهمة والمكمِّلة لموضوع الزميلة سحر طه، غابت، بعثت برد لرئيس القسم الثقافي يومذاك في صحيفة «المستقبل» الزميل «بول شاوول»، ضمّنته النواقص من الموضوع الذي نشر، وقد قام مشكوراً بنشر الرد كاملاً...
لم تمضِ أيام قليلة على نشر الرد، حتى فاجأتني الزميلة سحر بإتصال هاتفي هادئ ومحترم، شكرتني خلاله على الرد الذي اعتبرته «استكمالاً ضرورياً» لموضوعها، واستفادت مثلها مثل القرّاء، من تفاصيله، ومعتذرة عن هذا النقص، ومعيدة السبب إلى عدم تواجدها في ذاك الزمان، وإنها لم تجد كل هذه المعلومات في المراجع الصحفية التي استعانت بها..
في حقيقة الأمر، أكبرت في الزميلة «سحر طه» شجاعتها وشفافيتها، وشكرتها على اتصالها وعلى حسن تفهّمها، ومنذ ذلك اليوم، نشأت بيننا صداقة متينة، وحيث اكتشفت في هذه الإنسانة الكبيرة الكثير من مواصفات «الصحافية» الباحثة دائماً عن الحقيقة المجرّدة، و«الإنسانة» الشفّافة التي لا تخجل من الإعتراف بـ «نقص» موضوعي في مقالة تحمل توقيعها...
سحر طه... الزميلة والفنانة التي سعت دائماً لنشر ثقافة الغناء العراقي الأصيل عبر عشرات الحفلات التي كانت تتبرّع بإحيائها، والتي كانت تستعين بآلة العود المفضّلة عندها وهي تغنّي تراث موطنها الأول، «العراق» أسلمت الروح بعيدة عن الوطن العربي الذي عشقته، بعد معاناة طويلة مع الداء الخبيث، ما اضطرها للسفر للولايات المتحدة وحيث العلاج أكثر تطوّراً، لكنها عادت بعد أيام إلى وطنها الثاني لبنان جثماناً بلا روح، لتدفن في ترابه (بناء على وصيتها) وتحديداً في مدينة النبطية، وليبكيها الأهل والأصدقاء، وما أكثرهم، وليعلنوا جميعهم بموقف موحّد، في ذكراها الأولى: «وتبقى سحر... في القلب والبال»، وهي الكلمات التي زيّنت صورها في قاعة الإحتفال بسنويتها الأولى..
رحم الله سحر طه، الزميلة الصحافية والفنانة والإنسانة.