بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 كانون الأول 2017 12:00ص مائة عام على ولادة فنان بيروت رشيد وهبي موسيقى الألوان الطبيعية..وذكاء نادر في التأليف

حجم الخط
عاشق من عشاق الطبيعة. ومؤلف تصويري من طراز نادر، مع ذكاء غريزي بأهمية المكان. ذلك هو رشيد وهبي، ابن بيروت وعاشقها الذي ولد في أواخر عام 1917، وتوفي أواخر القرن العشرين عن عمر لم يتجاوز الثلاثة والثمانين عاماً، كان يشتغل خلاله بالرسم والتلوين، مؤكداً بان حضور الفنان الحياتي لا يمكن ان يتحقق الا من خلال تكريس حياته لزمانه الفني.
خلق رشيد وهبي البيروتي موهوباً فقد تعلم العزف على آلة الكمان وهو لم يبلغ الخامسة من العمر. لكنه انجذب لعالم الرسم وهو لم يزل تلميذاً مقاصدياً. الأمر الذي دفع ببعض اساتذته المقاصديين لأن يتصلوا بالرسام «حبيب سرور» وهو في مرسمه بحي السراسقة. طالبين منه تبني هذا الشاب الموهوب «رشيد وهبي».
أوّل عمل تعاون مع استاذه سرور على تنفيذه، كان صورة شفيع الطائفة المارونية «مار مارون» على جدار الكنيسة المارونية في ساحة البرج، حيث ارتدى حبيب سرور قماشة سوداء وجلس وسط كومة من الشموع طالباً من تلميذه رشيد وهبي ان يرسم ما يراه بقوة ومتانة.
بعد إنجاز تلك اللوحة توطدت العلاقة بين الأستاذ وتلميذه. إذ قام حبيب سرور بتسليم رشيد وهبي يافطات الافلام التي كانت تعرض في بعض دور السينما ببيروت.. وكان رشيد وهبي الرسام المبدع لم يزل يدرس في المقاصد حتى المرحلة الثانوية. عندما تخرج في الفترة التي بدأت فيها الحرب العالمية الثانية في أوروبا.
من هنا جاء قراره بالسفر إلى القاهرة والدراسة في كلية الفنون التي تخرج منها عام 1945. حيث سجل دارساً اختصاصي النقد والبحث لمدة سنتين.
في العام 1947 عاد إلى بيروت. وبدأ يشترك في بعض المعارض فلفت إليه الأنظار. فقد كانت لوحته مؤسسة على متانة تصويرية، وعلى ارهاف في التلوين. ولم يكن انطباعياً مثل مجايله الفنان الكبير عمر الانسي. ولا تسجيلياً مثل ابن مدينة مصطفى فروخ، بل كان انتقائياً كرس ريشته لرصد المنظر وفقاً لمتغيرات الألوان والمواقع. لكنه كإنسان متسربل بالنغم، وعازف سابق على آلة الكمان. لم ينس الصوت الطالع من علاقة العناصر اللونية في لوحته. فقد كان يخرج بين متغيرات اللون السماوي، وسطوح البيوت القروية في الجبل. وكان يُدرك بشفافية متناهية بان للأحراج لغتها اللونية، تماماً مثل اللغة اللونية الخاصة بالمياه الصافية في جدول وحيه.
كان رشيد وهبي يقول لنا: ما قيمة الفنان الرسام إذا لم يشعر باللون السري الكامن وراء الألوان المنظورة. فهذه ورقة الخريف الصفراء المائلة إلى الحمرة، هل ماتت أم اكتسبت حياة لونية جديدة، فلماذا لا تكون لوحاتنا عن هذه الفصول المتتابعة ذات إيقاع حيّ ومسترسل!.،
في محترفه بمنطقة البربير حيث يسكن، لم يكن يسمح الا لقلة من الأصدقاء الدخول إلى محترفه، وكنت ممن يثق بهم، وبخاصة عندما قلت له ذات يوم: انني لست مقتنعاً بانك لم ترسم لوحات تجريدية ايضاً:  إذ في كل لوحة من لوحاتك الانطباعية التعبيرية توجد مساحات تجريدية تبدو كأنها الاسانيد للعمل التصويري المباشر.
وحين فتح ملفاته المدهشة على السجل التجريدي من أعماله، ادركت انني امام مؤلف موسيقي من طراز نادر. فلوحة أرض القمر المائية كانت رؤى متقدمة لما كشف عنه فيما بعد الرواد الذين وطئوا أرض القمر. لكنه كان يُدرك بان ذلك الغبار الفضائي هو الحضور الخالد للكواكب التي لم يسكنها البشر. اما في لوحته التجريدية التي اسماها (سوفاتا) وهي ألوان مائية أيضاً. فان رشيد وهبي استحضر حنينه للموسيقى. وقد أقام علاقات وثنية بين الذاكرة واللون.
والغريب انه وفي تلك المرحلة التجريدية بالذات ذهب إلى أكثر جبال كسروان ارتفاعاً وغربة فرسم أديرة مهجورة، صارت بمثابة (محابس) لبعض الرهبان الذين هجروا الدنيا ومباهجها، وحين إنحدر إلى الوديان ادهشه بأن الاحراش هناك متكاتفة بشكل غريب، وانها شكلت مسكناً لذاتها. لذلك اندهش عندما رأى بعض اللبنانيين وقد اشادوا بيوتهم في قلب الوادي.
رسم (الآجام)، وهو يُدرك بان يد التشذيب لم تطل هذه (الأجمة) أو ذلك (الحرش)، فاللوحة هنا تعيش، ومن هنا تتوالد، السنا شعراء الطبيعة نحن الذين نكتب باللون وننطق بالصورة؟.
ربما هذا الإنشاء الطبيعي على الطبيعة بالذات، هو الذي جعل من رشيد وهبي رساماً مميزاً للأشكال البشرية. انه العين اللاقطة والاصابع التي تطبع ما تراه العين، فبيروت التي امامه بحياتها اليومية هي المخزون الهائل للنماذج البشرية. فلا بأس بأن يخطط ويرسم (كروكيات) لا تحصى لوجوه الأصدقاء والصديقات. إذ شاهدنا تخطيطات (بورتريت) لجورج غانم الشاعر، والاخطل الصغير، والشاعرة باسمة بطولي وعشرات غيرهم. ولكن  البشر الذين كان يصادفهم لهم رصيدهم أيضاً في تخطيطات رشيد وهبي. فها هو بائع المسابح، وها هو شيخ الشباب، وقبضاي بيروت، فيما رسم صديقه المفكر (رضوان الشهال) بكل متانة اللون الزيتي.
أمما بالنسبة لعاريات رشيد وهبي، فانه مثل أبناء رعيله الذين رسموا العري الانثوي لم يستثن الموضوع في محترفه، ولكن لو أردنا ان ندرس لوحة العري عند وهبي، لوجدنا الكثير من الخفر، والعذر التأليفي، اسوة بالشاب البيروتي الخجول. لكن المرأة العارية عند وهبي كانت مكتنزة شرقية الجسد فاقدة للاغراء الجنسي.
انه ليس قيصر الجميل الذي كرس موديله الحي (مريم) لكي يقدمها جسداً انثوياً امام عين المتلقي. بل ان رشيد وهبي رسم المرأة لذاته وخبأ الرسمة ولم يعرضها بمعرض.
ولكن ماذا بالنسبة للمنظر البيروتي عند رشيد وهبي؟
هنا نتحدث عن عاشق لمدينته، لذلك عندما يرسم حرش بيروت، يضع الحياة الحارة في التأليف الشجري، ويمنح العلاقات الخضراء على مستوى قمم الأشجار حالة من التوهج الناري الحي. انه لا يبالي عندما يرسم إحدى أشجار الحرج باللون الأحمر الناتج عن توهج الشمس. لذلك نراه يصدح بما تمتلكه بيروت من بلاغات لونية وتأليفية. الأمر ذاته عندما يرسم زيتية (ايلول) حيث الأشجار الدائمة الخضرة هي الحضور المعاند للخريف. فيما الأشجار الصغيرة النائمة تحت جذوع الأشجار الكبيرة تبدو بحالة ركوع امام آلهة الخضرة.
ولمادة (الباستيل) الطبشورية طواعية خاصة لرشيد وهبي، فهو المروض الاذكى لهذه المادة التي لا تسمح للفنان بالخطأ حيث ضربتها اللونية القوية تشكّل قاعدة لضربات لونية اخف، وحيث مقدرة الفنان القدير تؤسس لحالة بنائية في اللون المختزل من جهة، والمكثف من جهة أخرى.
بعد ان عاش 83 عاماً مات رشيد وهبي أواخر القرن العشرين في منزله. ومن المنصف ان نذكر ان أوّل من كرم الفنان رشيد وهبي هو الأستاذ (صلاح سلام)، عبر المؤسسة العربية للثقافة والفنون، حيث تمّ اقتناء بعض أعماله.
ورشيد وهبي هو من مواليد بيروت سنة 1917، درس في المقاصد، ومارس الرسم في محترف الفنان اللبناني حبيب سرور، ثم درس في كلية الفنون بالقاهرة وتخرج عام 1945، وهو من مؤسسي جمعية الفنانين للرسم والنحت، أستاذ الفن في معهد الفنون منذ العام 1947، حائز على وسام المعارف، وعلى جائزة الدولة التقديرية.
توفي أواخر القرن العشرين.. 
  عمران القيسي
فنان وناقد