بيروت - لبنان

اخر الأخبار

6 آب 2022 12:00ص أوراق بيروتية (74).. التأثّر والتأثير: الميــلاد والمــولد والتصـوّف (3/4)

وثيقة أبد الآبدين ودهر الداهرين وثيقة أبد الآبدين ودهر الداهرين
حجم الخط
سادت في المجتمع قواعد وأعراف وتقاليد عمادها الفضيلة والتعاون والعيش المشترك. في أمثال البيارتة قولهم: السر في السكان، ويصدق ذلك على تاريخهم وممارساتهم. فمدرسة الحقوق الرومانية لم تشتهر بأعمدتها الشاهقة وجمال زخرفات تيجانها بل بما أقرّته على أيدي أولبيانوبابنيان من قواعد حقوقية ونظريات مستمدّة من الأعراف المحلية للشعب. ولم تعمّ العالم شهرة الفينيقيين بالأرجوان والزجاج الذي حملوه في سفنهم إنطلاقاً من المرفأ المختلف على وجوده في خليج الزيتونة، بل بالأعراف التجارية التي أرسوها وبالأحرف الهجائية التي نشروها وصدّروها الى مختلف الشعوب. ولم تعرف المساجد والزوايا والكنائس والأديرة بالقباب والنواقيس والمآذن بل بما تردّد في أرجائها من صلوات ومدائح وخطب ومواعظ وذكر وما رسّخته من مكارم الأخلاق وقواعد التعامل والتراحم والتواد والفضيلة. وقد تجلّت هذه التقاليد والمكارم في مجالات مختلفة. والنفس لا تزال تحنّ الى تلك الممارسات التي كانت تسدّ فراغاً روحياً لا تسدّه اللذائذ المادية، ممارسات كنا نشعر فيها بتحقيق التعاليم الروحية ونجد فيها شيئاً من حقيقة الإيمان وطهر التقوى وقوة الرابطة الوطنية مع الآخر وسعادة التعاون، وحسن المعاملة التي هي باب الأمان والاطمئنان والطريق الى الدين الحقيقي لأن المعاملة هي بحد ذاتها عبادة.
وباعتقادنا ان الحروب الصليبية أدّت إلى نشوء منطقة وسطى مشتركة ضمّت الكثير من التراث المسيحي الشرقي والغربي والكثير من التراث الإسلامي، يصحّ أن نسمّيها منطقة التأثّر والتأثير. مظاهرها كثيرة منها انتشار التصوّف وقيام المسلمين بإحياء ذكرى المولد النبوي الشريف وما تبع ذلك من انتشار أدب الموالد والأناشيد الدينية والمدائح.

التصوّف والزهد
التصوّف علم بأصول يعرف بها صلاح القلب والجوارح بتجريد القلب عما سوى الله والوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً واتباع الشريعة بفعل المأمورات واجتناب المنهيات. وركن التصوف يكمن في المحبة التي كرّرها بولس الرسول في الرسالة الأولى التي خاطب بها أهل كورنثوس. وقد ظهر هذا التأثير في عدة أشكال منها التشابه في بعض المظاهر وفي استعمال تركيبات لغوية فضلاً عن الاختلاط بين المسلمين والنصارى العرب في الحيرة والكوفة ودمشق ونجران وفي مضارب القبائل العربية التي انتشرت فيها المسيحية مثل قبائل تغلب وقضاعة والغساسنة والمناذرة.
روى ابن الأثير في حوادث سنة 587هـ/ 1191م ان الملك العادل وملك انكلترة كانا يجتمعان ويتجاذبان حديث الصلح، وأشار الى ان طول المحاربة جعلت البعض يأنس بالآخر، فكان الفريقان يتحدثان ويتركان القتال وربما غنّى البعض ورقص البعض لطول المعاشرة ثم يرجعون إلى القتال بعد ساعة. ورأى ابن جبير في رحلته من العجب ان النصارى المجاورين في جبل لبنان إذا رأوا به بعض المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت واحسنوا إليهم ويقولون هؤلاء ممن انقطع الى الله عزّ وجلّ فتجب مشاركتهم. ويقول «للنصارى على المسلمين ضريبة يؤدّونها في بلادهم، وتجار النصارى أيضا يؤدّون في بلد المسلمين، والاتفاق في جميع الأحوال. وأهل الحرب مشتغلون بحربهم والناس في عافية والدنيا لمن غلب».
ويقول الابشيهي في «المستطرف» ان لأهل الرهبانية نغمات وألحان شجيّة يمجّدون الله تعالى بها ويذكرون نعيم الآخرة. قال الدكتور عمر فروخ «وأنا لا أرى بأسا أبدا من أن يكون الزهّاد المسلمون قد تأثّروا بالرهبان النصارى بعض التأثّر، فالقرآن يمدح النصارى {... ولتجدن أقربهم مودّة للذين آمنوا النصارى ذلك ان فيهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون} (المائدة 82).
وأورد أربعة أبيات لابن عربي هي:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكنْديني الى دينه دانِ
فقد صار قلبي قابلاً كلَ صورٍة
فمرعىً لغزلانٍ وديرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لنيرانٍ وكعبةُ طائف 
وألواح توراةٍ ومصحف قرآن
أدينُ بدين الحب أنّى توجهت
ركائبهُ فالحب ديني وإيماني
 وفيما كان الحبيس في محبسته يصلّي ويتأمّل، كانت رابعة العدوية، التي وصفها لويس ماسينيون بـأنها أكبر قديسة بين الأولياء، تناجي الخالق في محبستها (دارها) وتردّد:
أحبك حبين حبّ الهوى وحبّ لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى فشغلي بذكرك عمّن سواكا
وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
وكان من نتائج الحروب التي تعرّضت لها بلاد الشام وما أصاب السكان من قتل وتهجير واضطهاد ان دفعت الكثيرين الى اللجوء الى الزهد والعبادة ملاذاً لما هم فيه، فكثرت الزوايا وإقامة الذكر وتلاوة الأوراد وإنشاد المدائح، فيما اتخذ آخرون من التصوف الإيجابي، ان صح التعبير، طريقة للتصدي للإفرنج وتأسيس الربط والحصون وحثّ الناس على الجهاد. وراج نوع جديد من الأدب تمثّل في أشعار الصوفيين والموشحات والمدائح النبوية والابتهالات، وساعدت الموسيقى على انتشار الشعر الديني نتيجة إباحة الصوفية للسماع وممارستهم له من خلال الغناء والذكر، كما ساعد الشعر الديني على انتشار الموسيقى. وليس من المستبعد أن يكون اطّلاع المسلمين أثناء الحروب الصليبية على عادات الفرنج في أعيادهم لا سيما عيد الميلاد، دافعاً جعل شيوخ الطرق الصوفية يدعون المريدين لإحياء حفلات ذكر تمجيداً للنبي، ما أدّى الى انتشار ثقافة الموالد والمدائح التي وصلت الى أوجّها مع ابن الفارض والبوصيري بالهمزية والبردة.
المسيح و«ستنا مريم» عليهما السلام
كرّم الإسلام السيد المسيح إكراماً لم يحظَ بمثله أي نبي من أنبياء الله. كما أن مريم هي المرأة الوحيدة التي ذكرت باسمها في القرآن الكريم وقال عنها {يا مريم ان الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين} (آل عمران 42) ووصف القرآن مريم والمسيح بأنهما {آية للعالمين} (الأنبياء 91). وقال عن المسيح: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه} (النساء 171). ولمريم في قلوب المسلمين محبة وتقديراً بالغين وإذا ذكرتها جدّاتنا قلن: ستنا مريم. وقد مثّلت في الضمير الشعبي نموذج المرأة الطاهرة الصابرة. وعندما وصل تمثال العذراء إلى مرفأ بيروت حرص العاملون في المرفأ لا سيما المسلمون على الحفاظ على التمثال وتأمين وصوله إلى حريصا سالما وكان الحاج رهج رمضان على رأس الذين واكبوا التمثال.
معرفة الآخر
لا شك بأن علماء اللاهوت اطّلعوا وقرأوا القرآن وان علماء المسلمين عموما وفي بيروت خصوصا اطّلعوا على الإنجيل، فقد نقل المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري في مخطوطة بعنوان «خبايا الدراية» بعض أقوال المسيح عليه السلام فقال «روي أن عيسى عليه السلام قال: يا علماء السوء قعدتم على باب الجنة فلم تدخلوها ولم تدعوا غيركم يدخلها فمثلكم كمثل الدفلى زهره حسن وثمره يقتل». ونقل في مخطوطة أخرى بعنوان «فرائد الفوائد» «أن في انجيل متى ان ملكوت السموات والأرض يشبه رجلاً رب بيت استأجر فعلة لكرمه في ساعات مختلفة من النهار وأعطاهم الأجر نفسه للجميع مبتدأ من الآخرين الى الأولين الخ..» (انجيل متى 20)، وقد علّق المفتي الفاخوري على ذلك بقوله «أنظر لهذه الكلمات الإنجيلية تجد عليها رائحة من آثار النبوة».
ولم يكن مستغربا أن يلج البيارتة من كل الطوائف كلما مرّوا في سوق سرسق الى غرفة صغيرة علّقت فيها أيقونة لسيدة النورية فيلصقون عليها القرش المبخوش أو يشعلون شمعة تبرّكاً أو وفاءً أو رجاء. وأن يقدّروا ما قامت به الأم جيلاس وراهبات المحبة في دير العازارية. وإذا مرّوا في الخندق الغميق زاروا الأم كاترين بنت نعمة الكركبي. وذهبوا الى زاوية الأوزاعي ليشعلوا شمعة على أحد الحجرين عند باب الزاوية. وأحيوا ذكرى أربعاء أيوب التي تصادف الأربعاء التي تسبق الجمعة العظيمة وعيد الفصح عند الروم الشرقيين.
وفي بيروت القديمة، كانت محلة قرب ساحة رياض الصلح تدعى حصة القليس ولعل هذه الكلمة هي تعريب لكلمة اللاتينية Leglise. وكانت كنيسة القليس معروفة في اليمن.
عيد ميلاد السيد المسيح وذكرى مولد النبي محمد عليهما السلام
يرجع تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي الشريف الى مستهل القرن الخامس للهجرة أيام السلطان محمود الغزنوي، وساعدت الحروب الصليبية على انتشار الاحتفال به في أقطار الإسلام بالمشرق والمغرب. ويستفاد من حوادث سنة 566هـ/ 1170م ان نور الدين محمود (زنكي) شجّع الاحتفال السنوي بالمولد، ففي تلك السنة كان بالموصل صالح يعرف بالملا عمر (سمّي كذلك لأنه كان يملأ الجص وينقله بأجرة يتقوت بها) لا يملك شيئاً من حطام الدنيا، وكان ذا معرفة بأحكام القرآن والأحاديث النبوية وكان العلماء والفقهاء والملوك والأمراء يزورونه في زاويته ويتبرّكون بهمّته ويتيمنون ببركته وله كل سنة دعوى يحتفل بها في أيام مولد رسول الله يحضر فيها صاحب الموصل ويحضر الشعراء وينشدون مدح رسول الله في ذلك المحفل، وكان نور الدين من أخص محبيه يستشيره ويكاتبه في أموره. واستمرت عادة الاحتفال بالمولد أيام حكم آل زنكي ثم الأيوبيين فالمماليك والعثمانيين.. ولعل «الأبولة» (يزعم البعض انها مفرد أبابيل) التي اعتدنا إشعالها في ذكرى المولد النبوي وتوزيع الحلوى والملبس هي تقليد لاحتفالات الغطاس التي كان يشعل فيها النار والمشاعل.
احتفال بيروت بالمولد الشريف
لم يثبت لدينا ان البيارتة احتفلوا بعيد المولد النبوي قبل سنة 1860م ولم تتضمن دواوين شعراء بيروت إشارات بهذا المعنى وان وردت فيها قصائد يغلب عليها طابع ما كان يُذكر في الزوايا الصوفية من أوراد وأناشيد وابتهالات وقصائد توسلية. فللشيخ أحمد البربير (ت 1812م) توسلية في أسماء آيات القرآن كله مطلعها:
يا رب يا من فضله عميم
وهو بنا مع جهلنا رحيم
وما نعرفه من تقاليد الاحتفال بالمولد النبوي في بيروت يعود لما بعد سنة 1875م (أي بعد صدور صحيفة «ثمرات الفنون»)، ففي ذكرى المولد التي صادفت سنة 1878م نوّرت منارات الجوامع وأطلقت المدافع من القشلة وتُليت خطبة المولد في جامع النبي يحيى (العمري الكبير). وفي الذكرى سنة 1881م تكرر الاحتفال، وذكر ان الأهالي حرقوا من البارود والنفط والفراقيع (ما أشبه الليلة بالبارحة) ما يعادل قيمة خمسماية ليرة «وانه لو صرف هذا المبلغ في سبيل فتح مدرسة داخلية... لكان أجدى بالقبول عند النبي من إتلاف المال بدون فائدة».
أما كيفية الاحتفال العائلي فقد رواها الشيخ عبد الجواد القاياتي سنة 1882م بأن تنشر الدعوة للوجوه والأقارب لحضور كُتب الكتاب وسماع قراءة المولد في محل يفرشونه بالفرش الجميلة وينصبون للقارئ كرسي مسجّى بالحرير والكشمير ويبدأون بعشر من القرآن وبين كل فاصلة من القراءة ينشدون الأشعار النبوية والموشحات والأدوار ثم يقدمون قراطيس اللوز الملبّس بالسكر ويدورون بالشربات. وفي سنة 1910م قررت الحكومة جعل يوم ولادة فخر الكائنات عليه أفضل الصلوات من الأعياد الرسمية. وقد حضرت في صباي احتفال المولد في الجامع العمري الكبير، وكان قد رُفع عند مدخل الجامع بيتان من الشعر هما:
المسلمون ثلاثة أعيادهم
الفطر والأضحى وعيد المولد
فإذا انقضت أفراحها
فسرورهم لا ينقضي أبدا بحبّ محمد

* مؤرخ