منذ نعومة أظافرنا بعد مرحلة الإحتلال الإسرائيلي للبنان نسمع تعابير مرتبطة بالدولة الدينيّة، يعتبر الكثير من العامة هذه الدولة عنوان الحق المطلق مقابل الشر المطلق، مفتاح الخروج من أزمات الحياة السياسيّة والإجتماعيّة والاقتصاديّة. سرديات تاريخيّة تتكرر لتأخذ العامة الى ما يعتبرونه يتخطى مستواهم الإيماني ضمن عنوان الخلافة الراشدة عند السنّة والإمامة الوراثيّة المعصومة عند الشيعة. توطدت هذه الفكرة بعد العام 1979 تاريخ عودة الإمام الخميني الى إيران وتأسيسه الجمهوريّة الإسلاميّة وانطلاق مرحلة الجهاد الأفغاني ضد الغزو السوفياتي بدعم أميركي وإسلامي مطلق، لا ننسى الأرضيّة التي مهّدت لهذه المرحلة وعلى رأسها علمانيّة الأنظمة العسكريّة، مع ما يعنيه من تعميم الفكر الآحادي على الصعيد الحزبي المرتبط غالبًا بتبعيّة عصبيّة طائفيّة وقبليّة مُبَطَنة تؤمن مصالح الإمتيازات الفئوية للمتحكمين في دول سايكس بيكو. تُوّجَت هذه المرحلة بهزيمة 1967 أمام إسرائيل، ليبدأ الإنسياق الى واقعيّة إتفاقيات السلام وصولًا للفراغ الإيديولوجي العربي وتضييع الكيانيّة وحلم المواطنيّة وإرادة الشعوب... من هنا وجب علينا الخروج من اطارات تفكير الصناديق المعلبة لإعادة الأمور الى أصلها المُغَيّب ضمن قواعد كيانيّة «رسالية إسلاميّة إنسانيّة» حقيقيّة.
عَمِلَ الرسول صلى الله عليه وسلم على محاور متعددة لبناء الكيانيّة، الأولى كيانيّة فرديّة لإنسان منفتح منسجم مع نفسه، هو خليفة لله في أرضه، يسعى الى الإعمار ونشر الخير بعيداً عن عبادة العباد، الإستعلاء، الإفساد وسفك الدماء لتكون الهجرة الأولى الى «مَلِكاً لاَ يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ» أي ملك الحبشة عنوان حماية هذه الكيانيّة. الثانيّة كيانيّة عقائديّة مرتبطة {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ...} {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} مع ما تعنيه من الإنتماء الى منظومة عشرات الرُسل تجمعهم رِسالة مفاهيم واحدة بالرغم من تنوعهم وميزة كل منهم وخاصيّة زمان ومكان كل رسالة، ليكون {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍا مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّنَ} مع ما تعنيه بأن الرسالة وصلت لمرحلة تخطي الجانب الوراثي وشخص الرسول صلى الله عليه وسلم ووصلت الى مرحلة العالميّة المتجاوزة للزمان والمكان والأمميّة المغلقة، الكيانيّة الثالثة سلوكيّة تربويّة مرتبطة بفقه العبادات والمعاملات، أما الكيانيّة الرابعة موضوع المقالة فسياسيّة أجتماعيّة عنوانها المدنية المنورة أستناداً لبنود «صحيفة المدينة»، التي اعتبرها المؤرخون والمستشرقون أول دستور مدني في التاريخ ومفخرة من مفاخر الحضارة، وضع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الدستور عام 623م في السنة الأولى للهجرة، ويحوي 52 بنداً، 25 منها خاصة بأمور المسلمين، و27 مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، جميع الحقوق الإنسانية مكفولة فيه كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر والمساواة والعدل والعيش بحرية، يُقيم الجميع شعائرهم ومن غير أن يتضايق أحد ويستوعب كل منهم خاصيّة الآخر برحابة صدر. ويتضمن هذا الدستور سياسة دفاعيّة مشتركة يشارك فيها كل المكونات... أرست هذه الصحيفة قواعد «النموذج المدني» المنير المطلوب تعميمه في بقاع الأرض، تابع الرسول صلى الله عليه وسلم التحضير لأرضيّة نشر هذا النموذج لتحقيق نشرها الحضاري Benchmarking بعد دحر السلطة العسكريّة لساديّة طغاة الفكر العسكري الآحادي لبني الأصفر والأحمر، بعنوان التكامل بين تنوّع المكوّن الإسلامي وتنوّع المكوّن غير الإسلامي تحت سقف الوسطيّة، العدالة والتكافل الإجتماعي. ليُعَمَم نموذج «المدينة المنورة» بداية على القدس وفق خاصيّة هذه المدينة المقدسة عبر «العهدة العمريّة» ومن ثم انتشرت كالنار في هشيم احتياجات الإنسان المعاصر كحضارة جامعة لمكونات الشعوب تحت سقف القِيَم بحسب خاصيّة مدن الشام، مصر، العراق، المغرب... والأندلس. أما بيروت فقد أعاد تثبيت قواعد مدنيتها المنيرة الإمام الأوزاعي (رضي) قبل 1317 سنة بعيدًا عن التبعيّة للدكتاتوريات السلطوية المستجدة، لتكون مدرسة مذهبه المتميّز بإستقلاليّته عن كل التأثيرات السياسيّة انطلاق التغيير لإعادة تصويب المسار السياسي للمدنيات المنيرة، لتبقى هذه البنيّة أكبر من بنيّة السلطات السياسيّة المتعاقبة بما فيها تقسيمات سايكس بيكو التي قطّعَت أواصر مدنيات الأمة الجامعة في عالمنا العربي والإسلامي. حاصرت الأنظمة مفهوم الأُمة مع ما يعنيه حماية المدنيات المنيرة، حريّة حركة المواطنين بينها واختيار الإنتماء لأي منها وحريّة الفكر والتزاوج الثقافي الخلاق المجدد للحضارة.
الخنجر الأول الذي ضرب هذه الكيانية هو زرع فيروس الكيان الإسرائيلي العنصري في جسر التفاعل ما بين الدول العربية الأفريقيّة والآسيوية، ومؤامرة استبدال أهل فلسطين بساديّة مستعمرات شعب لله المختار لنشر نموذج حكم العنصريّة بين شعوب المنطقة. الخنجر الثاني مرتبط بالأحداث المتتابعة بعد احتلال العراق والثورة السوريّة وما تبعها من تهجير وتدمير للمدن التي تختزن هذا التاريخ العريق للتنوع الخلاق وكارثة تغيير البنيّة الديمغرافيّة بعنوان حلف الأقليات لمحاربة داعش والإرهاب وغيرها من مشاريع المخابرات وسرديات حقد أساطير المظلوميات لتبرير جرائم تدمير البنيّة الحضارية والقِيَميّة المميزة لمنطقتنا وشعوبنا.
نعود الى الكيانيّة السياسيّة اللبنانيّة، هناك تغيير قد حصل لجهة الإرتباط المدني للأطراف بمحيطها التاريخي قبل سايكس بيكو، تم تعويضه بمسارعة اللبنانيين لتشكيل مدنيتهم الجديدة، أثرت الأحداث المؤلمة خلال الحرب اللبنانيّة على هذه الحضارة، ثم نجح رجال دولة برعاية خارجيّة في وضع أسس دستور دولة مدنيّة، ليسارع زعماء ميليشيات سلطة المحاصصة الى إفساد ولادة هذا المشروع مما أوصل بلدنا الى اهتراء المؤسسات بما يخدم مصلحة شرعنة وتعميم العنصريّة الصهيونيّة. من هنا نؤمِن بأن تطبيق الطائف والدستور وفق قيم ميثاقيّة مقدمته سيحقق حتمًا الوصول الى كيانيّة مدنيّة منيرة متلائمة مع قيمنا وإيماننا وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم السياسيّة لفتح باب اعادة بناء مفهوم الأمة الجامع بوسائل عصريّة وحديثة.
آن أوان استعادة كيانيّتنا الإجتماعيّة والسياسيّة التي أرساها الرسول صلى الله عليه وسلم من وهم أساطير سرديات ساديّة الفكر الأحادي المضلل التي أُدخِلت علينا قبل وبعد العام 1979 بعنوان مشروع الدولة الدينية ممن يستعمل مصطلحات في غير مكانها وفي غير سياق قيمها لنشر فيروس العنصريات بعناوين أسلاميّة!! فالحكم بما أنزل لله يتطلب دولة العدالة وتحقيق كرامة الإنسان وكيانيته الفرديّة الإنسانيّة والإجتماعيّة المرتبطة بقيمه، سواء أتت من قبل النجاشي، أو من قبل جنوب أفريقيا أو قبل أي كيان ينتصر لقضايانا ويحترم كيانيات بنيتنا الأربع التي ذكرناها ويتوجها بكيانيّة خامسة هي شمولية التكامل بين هذه الكيانيات لتحقيق كرامة كل إنسان حر ومسؤول، والإستعداد الدائم للإنضمام لدعوة حلف الفضول للإصلاح الإقتصادي والإجتماعي بين الأمم، واجبنا الديني الإجتماعي السياسي تطبيق برنامج بناء الدولة الدستوريّة المؤسساتيّة المتكاملة لتحويل لبنان الى نموذج جديد للمدنيّة المنيرة بما يضعنا على سكة صراط مستقيم تصحح مسار إنحرافات تدمير مدنيات الشرق المنيرة التي قتلت حضارتنا وروحيّة إنساننا نتيجة سكوتنا عن واجب الوقوف أمام تلاعب شياطين مصالح المغضوب عليهم والضالين.