بيروت - لبنان

اخر الأخبار

12 آذار 2025 12:00ص سقسقة شيل - Chelles

حجم الخط
ما إغتربت عن قريتي، حين وصلت مع العشية، إلى شيل-Chelles، ضاحية باريس الشرقية.
في مثل منتصف شباط - اللباط، كما كان الأجداد يسمّونه: الشتاء غير الشتاء، والبرد غير البرد، والطبيعة غير الطبيعة، والأشجار والحدائق والجنائن المحوطة، والجداول والسواقي والنهر المشاطئ والمشاطر، والحساسين والأطيار المسقسقة، جميعها تغيّر عاداتها، جميعها تغرّد على طبيعتها، تمسي على أجنحة الشمس الهاربة، وتشرق مع شقشقة الفجر، وسقسقة الحساسين والأطيار كلها. أتحدث ها هنا عن بلدتين:
١- بلدتي مشتى حسن، في محيط وادي عودين والبقيعة وحوض النهر الكبير، والبساتين التي خيطت هناك خياطة، والجنائن التي نسجت هناك نسجا والعمائر القرميدية المعلقة.
٢- بلدة بل قصبة، بل مدينة شيل - Chelles، في ضاحية باريس، على مبعدة نصف ساعة من مطار شارل ديغول، حيث كل شيء فيها مشابه لطبيعة الذكريات الطفلة الجميلة. حيث النهر الذي يشقها إلى نصفين، ويلتف عليها، فيقتطع لها جزيرة صغيرة، لتحطّ عليها الطير، وتتخذ فيها أعشاشها. وحيث الجنائن والحدائق والتلال الخضراء المعلقة. وحيث سقسقة الينابيع والحساسين التي إعتادت أن تستيقظ صباحات شيل-Chelles الجميلة على ألحانها.
لا تزال دروب هذه القرية الوديعة هي نفسها، منذ أن عمرت بأهلها. تراها تتلوى وتعوج وتدور وتلتف، حيث يحلو لها. فليس فيها الخطط الحديثة، إلّا في الأماكن المستحدثة. وفى أهلها لها، فجعلوها على ما كانت عليه، تماما كما ألف الألف إلفه، منذ إن وجدت: طريق إلى التلة هناك. ودرب إلى الغوطة المجاورة. ومسرى طويل طويل، للإلتحاق بمطار شارل ديغول، حتى لا تفوته الطائرة.
لماذا تقدمت الدنيا بـ شيل- Chelles، وتأخّرت بنا؟ سؤال برسم من جاءوا ومن ذهبوا. أخلوا قريتي خربة منسية، ونمت شيل-Chelles، قرية، أو بلدة، أو مدينة عصرية فضية ذهبية متلألئة. ذهبوا بمحطات القطار، ونهبوا سكك الحديد وباعوها خردة. أما في شيل-Chelles، فقد أعمروها بمحطة للقطارات المختلفة. جعلوها تصب في المطارات كلها، وفي محطات باريس المختلفة. صارت هذه البلدة الحلوة الناعمة، النائمة على خد باريس، تأخذ حظها سريعا مع العصر المتقدم بها، إلى السمو والإزدهار والريادة.
كل محيط قريتي، من حوض العاصي، إلى حوض النهر الكبير، يتكشّف عن جرائم ارتكبت. فما أخطر من جريمة تصنيع المخدرات وتهريب السلاح، وفلول المخربين وتجار السلاح. يكفيها تجاوز القوانين وإستباحة الناس في الطرقات، في الليالي والنهارات. أما محيط شيل - Chelles، فقد صنعته الحضارة صناعة ورسمته الطبيعة الحلوة رسما، وسقسقت ترابه بالأزهار والأطيار والورود، وبأسراب الفراشات المنتجعة، من الصباح حتى الغروب، وسقت الغيطان الجميلة بماء العيون والينابيع.
ما تخيّلت تيم، هذا البرعم الناصع، الذي ينشأ اليوم في أحضان شيل-Chelles الوادعة، إلّا كما كنت أشتهي أن أكون في قريتي، حين كانت بلدة للجمال وللوداعة، وللرعيان على قصباتهم، يرنّمون ويزمرون، ويهاتفون الأطيار، أن تحطّ على أكفّهم، وترسم عليها طوابع الحب والوفاء، للتراب العاشق لزرقة السماء، ورذاذ أمطارها الدافئة.
مع تيم، هربت طفولتي من جحيمها. ها هي شيل - Chelles، تندّى كل يوم على كفيه عطر الغد، يمسح به عينيه، فينبلج الصباح له، وتنبلج الأرض، يفترشها، ثم يحبو، كما يرغب. لماذا تقدمت شيل- Chelles وتأخّرنا كلنا، في قريتي والجوار، حتى هذا المساء بعد قرن مضى ولن يرجع؟!
في شيل - Chelles، يصنع الناس زمانهم بأيديهم، كما يرغبون أن يكونوا في حاضر الدنيا، وفي غدها: بلدة عصرية، قطوفها أنابيب العرائش والسندس، ونجوم الكروم وشموس الهواء الذي يتكيّف، مع مآلات الحياة، حين تؤول الحياة إلى المغارب، وحين تعود من المشارق. أسواق تضج بالناس، ومقاهي السهر ودور التسالي، عامرة في المتكآت الهادئة. حيث الغيوم إذا عبرت، أذكت أسطح المدينة بعطرها، وحيث الشمس إذا وافت مواعيدها، جعلت كل شيء فيها ذهبا، وحيث الرياح، إذا ما نسجتها، رسمت للبساتين شالاتها.
بيني وبين تيم، قصة يصعب أن تُصدّق. كنت أتمنى لنفسي قرية، أو بلدة أو مدينة، تحبو معي كما أشتهي، ولا تدع الطريق، تقطع بي، وأنا بعد لم أصل إلى أجلي. لماذا كل هذا الحنين؟ لماذا كل هذا الشوق، إلى بلد المستحيل في قريتي؟ لماذا إذن شيل - Chelles، هي اليوم أعز ما أملك: ذكرى طفولة تأخّرت ثلاثة أرباع القرن، حتى إلتحقت بها اليوم، على كف صغيرة، مثل كعك الطفولة. أشتهي كل صباح وكل مساء، قبلة منها، حتى يهنأ لي العيش، ولا أعود نبعا أضاع مجراه، بل ها هو مثل مائه يتجدّد.

أستاذ في الجامعة اللبنانية