في علم النفس، يُعَدُّ الزعيم أو القائد الرمز الذي يعني الى شعبه أنه «المخلِّص» وهذه الظاهرةً التاريخية والثقافية تتكرر في العديد من المجتمعات، فالزعماء غالبًا ما يتحولون إلى رموز تمثل الأمان، القوة، والهوية الجماعية. لذلك، عند وفاة هذا الزعيم، تعاني المجتمعات من تغيرات نفسية عميقة تتطلب تفسيرًا وفهمًا دقيقين من خلال علم النفس الاجتماعي والسياسي سواء كان رمزياً أو واقعياً، يُعَدّ حدثاً ذي تأثيرعميق يتجاوز حدود الفرد ليشمل الجماعة بأسرها ويعبر عبوراً سريعاً من اللاوعي الفردي الى اللاوعي الجمعي.
١-الزعيم كرمز نفسي جماعي
في إطار التحليل النفسي السياسي، يمكننا اعتبار الزعيم الذي يُعتبر مخلِّصًا كنوع ابعد من الرمز، بل أقرب إلى الأيقونة النفسية الجماعية، حيث يتجاوز دوره السياسي ليصبح سبباً للأمل، الامن والأمان بالنسبة الى جمهوره. غير أنّ هذا الزعيم يمثل تجسيداً لنوع من الحاجات وهي” الحاجات الجمعية”، التي تتمثل في الحاجة إلى الاستقرار النفسي والاجتماعي لدى هذه الطائفة التي يمثلها هو.
كما أن مشاعر الحماس والخوف تتناقض في «الوعي الجمعي»، مما يؤدي إلى بناء صورة مثالية عن الزعيم، أي (نخاف؟ لا فهو موجود! ولهذا الوجود ألف حمد وشكر لله).
وفقًا لمفهوم "الإسقاط” في التحليل النفسي، يقوم الأفراد بإسقاط مخاوفهم ورغباتهم على هذه الشخصية، مما يُعزز من قوة حضورها في عقولهم، هنا، يتحول الزعيم إلى شخصية أكثر من مثالية، تمتلك القدرة المطلقة على مواجهة التحديات والتغلب على الأزمات.
وفي المقابل يفهم الزعيم من خلال هذه السلوكات أنه تحوّل إلى صورة "الأب الروحي” لهم حيث يرتبط كل واحد منهم به عاطفياً، مما يعزز من شرعيته ويُعزز من ولائهم له.
وتتجلى هذه الديناميكية أيضًا مع المخلّص من خلال مفهوم «الحاجة إلى الحماية» حيث يعكس الزعيم أهمية دوره في توفير الحماية النفسية والاجتماعية، وهذا يتطلب من الأفراد تخليهم عن بعض حرياتهم الشخصية في سبيل الحصول على الأمان الذي يقدمه. وهنا يظهر مفهوم «التوحد» بشكل واضح، وهنا نقصد التوحد والاتحاد الكلي معه حيث ان الاندماج مع هذه الشخصية الجماهيرية يُعزز من قوة الرابط النفسي بينهم وبينها، و
يرسخ مكانتها في الذاكرة الجماعية، حتى بعد غيابها يُصبح تأثيرها حاضرًا في أشكال مستجدة من التعبير الجماعي، مثل الحنين اليها والرغبة في استعادة تلك «الهوية» المفقودة والوفاء بالوعود واستحضارها بعد غيابها او تغييبها وهذا نا سنشرحه قدر المستطاع في الفقرات اللاحقة.
لكن مثل عادتي قارئي العزيز لا يسعني سوى ان اتحدث عن قلق التشرذم الطائفي خصوصاً إذا كانت خلفية المقال سياسية، دينية تحليلية.
فهنا قوة الزعيم ووجوده هو الضمان الوحيد كي لا تتشرذم هذه الطائفة التي دائما مهددة الوجود من قبل الداخل قبل الخارج، ولكن غياب او تغييب الزعيم يتسبب في عدوانية جماعية لديهم كي تثبت أكثر انها موجودة، بل وأقوى من السابق.
ونحن عندما نتناول موضوع قلق التشرذم الطائفي من زاوية نفسية تحليلية، نجد أن خلف هذا «القلق الجماعي» شعور عميق بعدم الأمان. فالطائفة، ككيان اجتماعي هو يحمل دائماً هوية جماعية، وهذه الهوية تسعى دائماً للمحافظة على وجودها في ظل جميع التهديدات الداخلية والخارجية ولهذا السبب يظهر الزعيم كشخصية محورية تلعب دور الحامي، المخلّص أو والضمان الوحيد لهذا الوجود، ليس فقط على المستوى السياسي أو العسكري، بل أيضاً على المستوى النفسي والاجتماعي.
الزعيم، في اللاوعي الجمعي للطائفة، يمثل الرمز الذي يحافظ على الترابط الداخلي ويمنح شعوراً بالأمان والانتماء فهو يمثل رمز الاب ايضاً. وهنا تكمن ضرورة شعور الفرد المنتمي لهذه الطائفة بأن له مكاناً ودوراً، بل ورسالة ايضاً وأحياناً تكون روحية من خلال ما يسمى مثلا بـِ «التكليف الشرعي».
لذلك عندما يغيب الزعيم، أو يتم تغييبه بفعل قوى داخلية أو خارجية، تدخل الجماعة ب Trauma جماعية. وهذا الانفصال الصدمي أي الحدث يؤدي إلى فراغ في الهوية المشتركة، ومن ثم الى حالة من الذعر والفوضى النفسية التي تترجم من خلال سلوك عدواني جماعي.
العدوانية هنا ليست فقط تعبيراً عن الغضب أو الخوف، بل هي أيضاً الانكار الشديد بالإضافة الى الإصرار على إخفاء مظاهر الحزن والحداد لمحاولة إثبات الذات أمام احتمالية التفكك وصولاً الى الانهيار.
ولمواجهة هذا القلق تبدأ هذه الطائفة بجهود جبارة لتثبت انها ليست فقط موجودة، بل أقوى مما كانت عليه قبل غياب الزعيم. فالجماعة ككل هنا لديها حاجة ملحة للتعويض عن فقدان «الرمز الحامي»، وهو فعليا نعلم ان الزعيم يكون أحيانا الناطق الرسمي باسم الجماعة وبعد غيابه هناك من يمثله بالإنابة، لذلك الخطابات هنا الموجهة للجمهور او الجماعة ككل غالباً ما تكون للطمئنة وللتهدئة لضبط الشارع من جهة ولتجديد الوعود والعهود من جهة أخرى …
وإذا أردنا ان نقرأ الصورة على مستوى الوعي واللاوعي الفردي، فكل فرد في الجماعة يشعر بالخوف من فقدان هويته، لذلك نراه يسير مع تيار الجماعة في أي تجاه تتخذه معتقداً أنه يحمي ذاته ضمن هذا الكيان الأكبر... وهكذا تتداخل الديناميات النفسية مع السلوك الاجتماعي، فيصبح قلق التشرذم وقوداً للاستمرارية …
٢-ما هو الفرق بين الغياب والتغييب؟ وما فائدة الانتظار؟
الغياب هو الموت، أما التغييب فإن المخلّص قد تم تغييبه عمداً من أجل إنجاح استراتيجية ما او مخطط سياسي كبير (نظرية المؤامرة) وسيعود في الوقت المناسب. لكنه سيعود في الحالتين ميتاً كان أم حيّاً لانه لدى بعض الأديان والطوائف حتى وإن مات المخلّص فإنه سيقوم من جديد من أجل خلاص شعبه…
٣-لحظة إعلان مقتل الزعيم… صاعقة نفسية تضرب الجماهير في عمق وجدانها الجماعي!
قبل ان اتحدث عن انهيار الرمز وتداعياته النفسية، لابد ان أذكر انه عندما يتم اغتيال شخصية عسكرية قيادية هنالك فوضى تضرب مشاعر الشعب كله عند سماع الخبر فجميعنا يقف امام خليط من مشاعرالخوف والارتباك وأيضاً عدم التصديق…
وعن عدم التصديق سنتحدث…
٤-عدم التصديق: لان الانكار هو أول آلية نفسية يدفعنا اليها لاوعينا…
يُظهر اللاوعي الجمعي ردود فعل دفاعية مثل الإنكار (denial) أو الرفض،
في محاولة لتجنب مواجهة الواقع القاسي وغير المتوقع، هذه الصدمة تُشبه إلى حد كبير فقدان الاب في حياة الفرد، مما يؤدي إلى الشعور باليتم الجماعي (collective orphanhood)، حيث تفقد الجماعة المحور العاطفي الذي كان يجمعها بهذا الزعيم (المخلّص) هذا اليتم لا ينتج عنه فقط شعورًا بالحزن، بل أيضًا يؤدي إلى حالة من عدم الثقة بالزمن والمستقبل، حيث يشعر الأفراد بالضياع وانهيار التطلعات الى المستقبل.
٥-مراحل الحداد الجماعي:
يمكن أن نفهم الاستجابة النفسية لموت الزعيم(المخلّص) على أنها تمر بمراحل شبيهة بتلك التي حددتها «إليزابيث كوبلر روس» فيما يتعلق بالحداد الفردي. ومع ذلك، في السياق الجماعي، تأخذ هذه المراحل أبعادًا أكثر تعقيدًا نتيجة لصراعات العواطف الفردية مع «اللاوعي الجمعي» (Collective Unconscious) وتأثير الهويات الاجتماعية والسياسية.
وتشمل هذه المراحل:
الإنكار:
في هذه المرحلة، تتجلى آلية الدفاع النفسي الأولى في شكل رفض فردي وجماعي لتصديق موت الزعيم…فنحن عندما نتعرض لاي صدمة فوراً ننطق بكلمة (لا!) يشير الإنكار هنا إلى مان اللاوعي الجمعي يحاول حماية الذات الجماعية من الصدمة المفاجئة عبر التشبث بفكرة أن المخلّص لا يموت وبأنّه أساسا صعب المنال.
يظهر الإنكار في صيغة شائعات بأن الزعيم سيعود، أو نظريات مؤامرة تشير إلى أنه ما زال حيًا كما ذكرنا لإنجاح استراتيجية ما او مخطط سياسي.
هذه الدينامية النفسية هي بمثابة حماية لعدم مواجهة الحقيقة المؤلمة، وتعمل على تأجيل شعور الفقد الفعلي، مثل ان يقول الافراد ان المهلّص وعدهم بالقوة والبقاء وبقوة البقاء…
هنا، يرتبط الإنكار بتشويه الواقع (Distortion of Reality)، حيث تخلق الجماعة واقعًا موازيًا يكون أقل إيلامًا من الحقيقة الصادمة….
مع البدء بوعد النفس بحتمية العودة! واللجوء الى علماء الفلك وتفسير توقعاتهم وربطها بآمالهم…كما الاستعانة بخطابات قديمة تتضمن عبارات ووعود يتمسك الجميع بها لانكار حقيقة ما حدث!
الغضب:
يوم، أسبوع، شهر…. والمخلّص لم يعود، بل العالم كله يرثيه… تبدأ الجماعة في مواجهة الحقيقة بشكل تدريجي، تظهر مشاعر الغضب كآلية دفاعية ثانية بعد الأولى أي الانكار.
هنا، يتم توجيه الغضب نحو عدة اشخاص، مثل السياسيين المعارضين أو الأصدقاء والأقارب فكل واحد منهم لم يكن محبا للزعيم يصبح عدو…في هذه المرحلة، يُستخدم ايضاً «الإسقاط» (Projection) كآلية نفسية لتحويل مشاعر الألم والحزن إلى اتهامات ضد الآخرين.
الغضب هنا ليس مجرد انفعال عابر، بل هو تعبير عن الخوف من «الفراغ القيادي» (Leadership Vacuum) الذي خلفه موته، والذي يهدد البنية النفسية والاجتماعية للجماعة.
المساومة:
في هذه المرحلة، تحاول الجماعة البحث عن بدائل لتحليل أو إصلاح الفراغ الذي تركه الزعيم. عملية المساومة تتمثل في البحث عن إجابات نفسية وروحية، مثل التفكير بأن هناك زعيماً اقوى سيظهر، وأن موت الأول هو وقود لبقاء هذه الامة…. يظهر هنا مفهوم "التماهي” (Identification)، حيث يبدأ الشعب في محاولة التماهي مع الزعيم الراحل من خلال تبني قيمه وأفكاره كمحاولة لحفظ استمرارية الإرث السياسي والنفسي للزعيم وأيضا الديني.
هذا التماهي يخلق شعوراً مؤقتاً بالتوازن، ولكن على مستوى أعمق، هو محاولة لتجنب التعامل المباشر مع الفراغ الذي فُرِض عليهم.
الاكتئاب
عندما يبدأ جمهور الزعيم الراحل في مواجهة حقيقة الفقد، يظهر الاكتئاب الجماعي (Collective Depression) كمرحلة أساسية. ويطرح نفسه الحداد هنا من خلال ممارسة طقوس على المدى الزمني الطويل تتمظهر من خلال الحزن العميق والفراغ وفقدان المعنى في الحياة الاجتماعية والسياسية بعد رحيل الزعيم. كما أن فقدان الأمان النفسي الذي كان يوفره الزعيم، يسهم في تزايد مستويات القلق (Anxiety) حول المستقبل والغموض الذي يكتنفه.
القبول
حالياً في وطننا الحبيب لبنان، جميعنا سيتأخر عن مرحلة القبول، ففي ظل هذه الحرب نحن في مواجهة عدو غاشم يسلبنا أمننا وسلامنا وأولادنا، ويجعلنا نعيش يومياً مشاعر الحزن والغضب والقلق كما الحداد وظلمه المستمر يعقد من إمكانيتنا لتخطي الصدمة…
إن الإنكار يسيطر علينا، حيث نتمسك بأمل زائف بعودة الأمان اليوم قبل الغد بينما يتحول الغضب نحو المسؤولين عن معاناتنا…
قرائي الاعزاء…دمتم بخير!
(*) أخصائية نفسية