بيروت - لبنان

اخر الأخبار

27 كانون الثاني 2023 05:44م الصيغة اللبنانية.. عصية على الاستتباع والالغاء

حجم الخط
سبعة عقود والمواطنية اللبنانية تواجه موجات من التداخل والاختراقات المضطربة من الهويات الطائفية والمذهبية والمناطقية والأيديولوجيات والقوميات والنكبات والنكسات والثورات والنزاعات الأهلية والحرب والدمار والعزل والاحتلال والوصاية والاغتيالات والانتفاضات والتعطيل والاستقواء، والمواطنية اللبنانية تميزت بالفرادة والتألّق وبالحريات والفنون والإعلام والثقافة والكتاب واليمين واليسار والليبرالية والاستبداد، اسماء واسماء ومبدعون ومبدعات ومسارح ومطبوعات ومدارس وجامعات ومهرجانات وتلفزيونات واذاعات واشعار وشعراء واغاني ومعزوفات وكتاب ورواد، يوم حملنا الى المدينة أنقى ما في الأرياف من صدق وحبّ وطموحات، وثقافة من يزرع الشوك يجني الجراح، يوم كانت الأرياف تهدي المدينة أفضل أبناءها كما يقدم الفلاّح أنقى الثمار لأفضل الزوار، يوم كانت بيروت المدينة كثيرة الأبواب والأضواء والبيوت والغرف والمقاهي المفتوحة للوافدين الطامحين بكلّ حبّ ورجاء وحنان، يوم كان الانسياب سلساً بين المناطق والمدن والطبقات، وحلم جميل اسمه لبنان..

سبعة عقود شهدنا فيها قتل من نحبّ، واحترقت أماكننا، وتركنا بيوتَنا وأُقفلَت في وجهنا كلّ سبل الحياة، وساد ما هو أبشع من أن نذكره و أقسى من أن ننساه وسقطت قيمنا الواحدة تلو الأخرى، ودمر العنف اسباب الثقة فيما بيننا، عرفت معظم الذين قَتلوا والذين قُتلوا، وأغلب الذين كذبوا وبعض من صدقوا، سلبوا منّا كلَّ شيء في حروبهم، وسرقوا منا أعمارنا وأموالنا وأسواقنا وبيوتنا، و تقاسموا المغانم والمناصب وكتبوا عن أنفسهم ما ليس فيهم، وأقنعوا أنفسَهم بأنفسِهم، وخسرنا طهارتنا باقترابنا من فظائعهم، ولا نستطيع أن ندّعي أنّنا أبرياء لأننا جاريناهم وسكتنا عن ارتكاباتهم بحق الوطن والمجتمع والدولة والإنسان وشاهدنا الظلم وبررناه، وكنا شيطان اخرس وتجرّأنا على الضعفاء.

سبعة عقود والدولة الوطنية يعترض سبيلها المصالح الفئوية والخرافات التاريخية والأحداث الدموية والتطورات الاقليمية والدولية، وكلما اشتد الغضب لدى الوطنيين المدنيين في مواجهة حملة السلاح، يعود التهديد والوعيد بالقتل والتخوين، ويعود انقسام اللبنانيين بين من يريد بناء الدولة الوطنية المدنية وبين من يريد إعادة عقارب الزمن الى الوراء وابقاء السلاح خارج ألدولة والانتظام العام والبقاء حيث كنّا ولا نزال بين الدولة واللادولة، وتعود لغة التأديب والترهيب والاغتيال، ويسقط الشهداء العزّل المؤمنون بهويتهم الوطنية والطامحون الى تحرير لبنان من الاستتباع من أجل الوطن والإنسان .

سبعة عقود طويلة ونحن نواجه موجات الاستهداف المتعاقبة وغايتها تفكيك هويتنا الوطنية ومنعنا من اقامة دولتنا المدنية والعبث باسباب اجتماعنا وتلاقينا وتعميم ثقافة ادارة الازمات على حساب قواعد الدولة والانتظام العام، وتحويل لبنان الى ساحة نزاع خلفية وتصفية حسابات دولية واقليمية وكل تلك الاحقاد فشلت في قهر الصيغة الوطنية اللبنانية الاستثانية التي عبرت عنها بدقة الرسالة الاولى لبطاركة الشرق وجاء فيها ( ان المسيحيين يشكلون جزءاً موضوعياً من الهوية الثقافية للمسلمين ، مثلما يشكل المسلمون جزءاً موضوعيا من الهوية الثقافية للمسيحيين، فهم جميعاً والحال هذه مسؤولون عن بعضهم البعض امام الله والتاريخ ).

سبعة عقود ونيف من الاستهدافات والنزاعات منذ نكبة فلسطين ونشوء الكيانات الفاشلة المغلقة والصيغة اللبنانية كانت ولا تزال عصية على الاستتباع والإلغاء.