بيروت - لبنان

اخر الأخبار

30 كانون الأول 2022 12:29ص أزمتا غذاء وزراعة

حجم الخط
يعاني العالم من أزمة غذاء في الكميات والنوعية والأسعار. كما أن القطاع الزراعي المصدر الأساسي للغذاء يعاني من أوضاع خطيرة ليس فقط بسبب الحرب الأوكرانية وانما لأسباب أخرى. للقطاع الزراعي خصوصيات مهمة منها أن حصة الانفاق على الغذاء تتدنى كلما تحسنت الأوضاع الاقتصادية العامة، وهذا ما يعرف بقانون «انغل». كما أن ارتفاع انتاجية الزراعة بسبب التكنولوجيا والأدوية والسماد والكيماويات تؤدي الى انخفاض «شروط التبادل التجاري» لكافة السلع الزراعية. تؤدي هذه الوقائع جميعها الى خروج اليد العاملة من القطاع باتجاه الخدمات خاصة، واليوم أكثر فأكثر نحو قطاع التكنولوجيا والمال. منذ ألوف السنين، يؤمن المزارعون الصغار الغذاء لمجتمعاتهم، وهذا يعتمد الى حد بعيد على الكفاءة العلمية للمزارع كما على المامه بالبيئة التي يعيش فيها من جميع النواحي.
الثورة الخضراء التي حصلت في ستينات القرن الماضي نقلت القطاع الزراعي من الوضع التقليدي القديم الى زراعة سلع معينة في ظروف مناسبة. تم التركيز على الانتاجية، وربما أكثر من النوعية عبر استعمال الكثيف للكيماويات والاسمدة والأدوية. سمح هذا التغيير الانتاجي للدول الفقيرة بزيادة انتاجها والتصدير الى الدول الغنية، أي أدخلت الى اقتصاداتها عملات صعبة ساعدتها على النهوض والنمو. في ذروة الثورة أي في فترة 1970\1990 ارتفع الانتاج الغذائي الفردي 11% في وقت استمرت خلاله زيادة المجاعة بسبب عدم فعالية النقل وبسبب ارتفاع الأسعار أمام للفقراء. ما يحصل عالميا بالاضافة الى عوامل العرض، هنالك انخفاض في الطلب على السلع الزراعية والغذائية مما يفرض عمليا دعم القطاع الزراعي في معظم الدول ومنها الولايات المتحدة ودول الوحدة الأوروبية. أسباب الدعم لا تعود فقط الى الحفاظ على الانتاج وانما أيضا لابقاء المواطنين في الريف وعدم النزوح الى المدن.
أي عملية دعم تكون مكلفة ماديا، والا لن تحصل أصلا. المهم أن تكون سياسات الدعم ذكية أي تختار السلع المهمة وتدعم صغار المزارعين وليس الكبار كما يحصل في أميركا وأوروبا والعديد من الدول النامية والناشئة. الملكيات الزراعية الصغيرة هي قلب الاقتصاد وبالتالي الحفاظ عليها من الأولويات الوطنية في كل الدول. يتطور القطاع الزراعي عموما ببطء بسبب طبيعة الأرض وعدم المام بعض المزارعين بالتقنيات الحديثة التي تطور الانتاج. لذا يتطور القطاع بسرعة أقل من غيره خاصة وان النمو السكاني الكبير في الدول النامية يحتاج الى زراعة فاعلة ومنتجة. تحديات القطاع الزراعي مرتبطة بالسكان وبحجم الملكيات وتوزعها اذ نعلم جميعا أن الملكيات الصغيرة لا تنعم بووفورات الحجم لكنها تحافظ على التوزع السكاني الضروري بيئيا. يمكن ايجاز مفارقة القطاع الزراعي بنمو الانتاج مع انخفاض حصة القطاع في الناتج المحلي الاجمالي.
انتاجية القطاع الزراعي في السلع الغذائية وغيرها يعتمد على توافر التكنولوجيا الحديثة مع تمويل مناسب لا يدفع المزارع نحو الافلاس. هذان العاملان يعززان فرص الحصول على دخل مناسب ومستقر للمزارع حتى في الدول الفقيرة. وجودهما هو من أفعل السياسات للقضاء النهائي على المجاعة وتأمين استقرار عرض السلع الزراعية والغذائية للجميع. لاستمرارية العرض وتوافر الغذاء لا بد من انتقال اليد العاملة من الزراعة التقليدية الى زراعات متطورة منتجة تكفي الأسواق الداخلية وتعزز الصادرات. لا بد من التنويه هنا بالنجاح الهولندي في هذه التجارب الكبيرة الرائدة.
يقول محمد يونس حامل جائزة نوبل للسلام لسنة 2006 ومؤسس مصرف الفقراء في بنغلادش أن أزمة الغذاء في سنة 2008 حصلت بسبب ارتفاع الأسعار التي فاقت امكانية الفقراء على شرائها. تعود الأزمة الى عاملين أساسيين في رأيه وهي الزيادات السكانية الكبيرة خاصة في الدول النامية وانخفاض المساحات الصالحة للزراعة بفضل توسع المدن والحاجة للسكن في مختلف المساحات المتوافرة. كما أن الطلب على السلع الغذائية ارتفع عالميا مع ارتفاع مستوى الدخل في الدول الغنية. يضيف يونس أن من الأسباب أيضا عدم توافر الأموال لاقراض المزارعين ووقوع مشاكل بيئية كبرى قضت على المحصول أي فياضانات متعددة وحر شديد كما حصل الصيف الماضي في فرنسا واسبانيا وايطاليا والولايات المتحدة وغيرها. لا شك أن أسواق الغذاء العالمية ليست شفافة وتعزز أوضاع الدول الغنية القادرة على شراء أغلى السلع وجلبها الى مجتمعاتها عبر نظام نقل متطور ومناسب.
أما اليوم، تحصل مشكلة غذاء من جديد بعد سنوات من البحبوحة وسهولة العيش نتيجة التطورات السلبية القاسية أي الكورونا والحرب الأوكرانية. نقل الحبوب من أوكرانيا بعد الاتفاق الدولي في اسطنبول يتعثر سياسيا وأمنيا، ولا بد من تسهيل انتقال هذه السلع منعا للمجاعة ولارتفاع أسعار الحبوب. لا شك أن الكورونا دفعت أكثر من مئة مليون شخص نحو الفقر الشديد ومثلهم نحو سوء الاستقرار الغذائي الحاد. في وقت تعثر العالم خلاله مع الكورونا، أتت الحرب لتعرقل عرض القمح والزيوت والسماد الكيماوي وترفع الأسعار مما دفع أكثر من 40 مليون مواطن اضافي خاصة في افريقيا نحو الفقر الشديد والجوع. مئات الملايين الآخرين تتعثر معيشتهم وتتدنى أوضاعهم المادية.
ما هي الدروس التي يمكن اقتباسها من مشكلة اليوم المتجددة؟
يجب تطوير أنظمة انتاج الغذاء عالميا بمساعدة مؤسسات الأمم المتحدة المتخصصة. كما يجب انتاج سلع جديدة ربما بديلة عن سلع اليوم تنتج في أمكنة جغرافية مختلفة وبعيدة عن الصراعات. من الضروري تعميم استعمال التقنيات الزراعية الجديدة أي نقلها الى الدول الفقيرة لزيادة الانتاج. المهم انتاج سلع صحية لا تؤذي الانسان. أخيرا، تطوير تجارة الغذاء والتمويل مهمان جدا لنقل السلع عبر العالم، وهذا ما لم يحصل حتى اليوم بالرغم من جهود منظمة التجارة العالمية. لا بد من التضامن عالميا لجعل الغذاء أولوية سياسية وشعبية تتوافر بسرعة للجميع.