بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 تموز 2021 12:02ص أفغانستان أيضاً مسألة لبنانية

حجم الخط
أضافت الردود على طلب المحقق العدلي القاضي طارق بيطار الإستماع إلى نواب ووزراء سابقين وإلى المدير العام للأمن العام مأثرة جديدة للسلطة، عبّرت هذه المرة عن وقاحة متوحشة في مواجهة عائلات مئات الضحايا وألوف الجرحى، كما عكست ضحالة ما تبقّى من مؤسسات وهزال شاغليها. امتثل الجميع لأوامر فوقيّة لا تُرد، وأصبح البحث عن مخارج بين الأسطر القليلة التي صاغها المحقق العدلي، لتبرير الإختباء خلف ما نصّ عليه الدستور في المادة 39 المتعلّقة بـ«عدم جواز إقامة دعوى جزائية على أيّ من أعضاء المجلس النيابي بسبب الأفكار التي يبديها أثناء مدة نيابته»، أو في المادة 40 «التي تمنع اتّخاذ إجراءات جزائية نحو أيّ من أعضاء المجلس أو إلقاء القبض عليه إلا بإذن المجلس» والتي تعتبر خارج الصلاحية لأنّ المجلس النيابي ليس في دورة إنعقاد عادية أو إستثنائية. أما في ما يتعلّق باستدعاء الموظفين لاستماعهم فمخاطبة الوزير المختص لا تندرج في سياق إلتماس الموافقة للسلطة القضائية لممارسة دورها، أو لتأكيد خضوعها للسلطة التنفيذية أو لإحدى الوزارات بل هي من قبيل إعلام هذه السلطة بملاحقة أحد موظفيها إحتراماً لمبدأ استقلالية السلطات وتعاونها. 

بالطبع لم يكن المرور الإعلامي القصير، بالصوت والصورة، للنواب لدى خروجهم من دارة الرئيس نبيه بري كافياً للتعبير عن ثقة عارمة بالنفس أرادوا إظهارها بمواجهة إجراءات أقل ما يقال فيها أنها تحاكي أبسط أدبيات المواساة لعائلات تستجير بالعدالة. قسمات الوجوه والعبارات المسبقة التحضير التي سيقت لم توحٍ سوى بالعجز عن إقناع أقرب المقربين وأخلص المحازبين. كذلك لم تنجح حملة الإستنكار المصوّرة لاستدعاء المدير العام للأمن العام في اكتساب بُعد شعبي، فالطرق الشعبية للتعبير لا تتّخذ أشكالاً هندسية منضبطة يتمّ تركيبها في وقت قياسي، كما أنّ العبارات المنمّقة التي ذيّلت الصور أعادتنا إلى أدبيات لدكتاتوريات الحزب الواحد حيث تقوم مكاتب إعلامية بالترويج بشكل استعراضي لرأي عام غير موجود ويصعب اكتسابه.  قد لا يجد المحقق العدلي سبيلاً للإستماع إلى النواب والوزراء والمسؤولين الأمنيين، ولكنه حكماً لن يطلب إعفاءه بل سيختم التحقيق معلّلاً عدم التوصّل لتحديد المسؤوليات بتعذّر مثول الأشخاص المشار إليهم أمامه. وهذا سيشكّل بحدّ ذاته إتهاماً صريحاً ودائماً أمام الجمهور اللبناني وكرة ثلج قابلة للإستثمار من قِبل المنظّمات الحقوقية الدولية، وقد يؤسّس ذلك للمطالبة بمحكمة دولية/ لبنانية لملاحقة المسؤولين عن جريمة تفجير مرفأ بيروت.

بموازاة كلّ هذه الإفلاسات والسقطات للسلطة اللبنانية يتجه الإهتمام الدولي للإكتفاء بتأمين الحاجات الإنسانية والطبية للبنانيين بإشراف فريق دولي وبمواكبة البنك الدولي. هذا المسعى الذي يتعامل مع لبنان كدولة فاشلة مهددة بانفجار إجتماعي، سيفضي بلا شك إلى نوع من الإستقرار، كما سيجرد الأطراف السياسية وفي مقدّمتها حزب الله - الذي فشل في كلّ طروحاته الإقتصادية آخرها نفط طهران - من خطابه التعبوي. قد تنجح المقاربة الدولية الى حدّ كبير في إنقاذ إحتياطي الودائع الذي يستعمله مصرف لبنان بضغط من قوى السلطة وبالتالي في التقليل من تحمّل لبنان لأعباء التهريب إلى سوريا، كما قد تنجح في إحداث فرز سياسي ورسم ستاتيكو جديد يقوم على الفصل بين فريق سياسي - من تقليديين وقوى مجتمع مدني ينادي بالتسوية الداخلية والتمسّك بالمؤسسات وفي مقدّمتها الجيش ودائماً تحت سقف إتّفاق الطائف - وفريق آخر محكوم بالمواجهة مع الشرعية الدولية.

لم تعنٍ مقولة «حلّ الأزمة في لبنان مسألة داخلية» التي ترددت أخيراً في أدبيات الموفدين الدوليين، وتنمّر عليها بعض الساسة اللبنانيين إنّ استعادة قرار الحرب والسلم ووقف التورط في الصراعات الإقليمية هو شأن لبناني داخلي وبأنّ القرار الإيراني يمكن تعديله أو تعطيله بأدوات لبنانية. وإنما عَنت دون شك أنّ المساعدة الدولية للبنان مرتبطة بإظهار القوى اللبنانية أو بعضها إرادة حقيقية للعودة إلى منطق الدولة والخروج من منطق التعطيل لخدمة مصالح خارجية. فالقوى الداعمة للبنان لا زالت في مرحلة البحث عن شراكة داخلية حقيقية تشكّل قاعدة للتعاون، وإنّ كلّ ما قدّمته القوى الداخلية اللبنانية لم يتعدَ الرضوخ لمنطق التسليم بالأمر الواقع، ليس على مستوى المواجهة السياسية مع حزب الله فقط، بل بالإستكانة والخنوع الدائم أمام كلّ ما يمكن أن يشكّل رافعة لقدرات المواطن اللبناني على المستوى الإقتصادي والمعيشي.

لم يتمتع لبنان يوماً بسلطة صارمة تطبق القوانين وتحفظ النظام العام، فالوطن منذ تأسيسه بقي خاضعاً لمحاولات الإستئثار والإستباحة من قِبل عائلات وأفراد مكنتها ظروفها من صياغة شبكة مصالح على حساب المصلحة الوطنية، ولكن الحماية الوطنية والحفاظ على المؤسسات أمنتهما منظومة قيّم لبنانية ترعرعت في الجامعات والمنتديات الثقافية والمسارح ودور السينما ومقاهي الرصيف التي أمّنت بمجملها إنسيابية التفاعل بين قيّم الريف والمدينة الزاخرة بالتفاعل. صحيح أنّ تلك المجموعات لم تكن عازمة على بناء دولة حقيقية تنتصر على كل الإمتيازات، لكنها حافظت على الإلتزام بما يكفي من الأخلاقيات لتثبيت الإستقرار وتأمين التضامن الوطني. وبالتالي فإنّ القول بحلّ داخلي للأزمة في  لبنان هو طرح لإشكالية إنقاذ منظومة القيّم اللبنانية وفي مقدّمتها التجربة الديمقراطية التي إجتاحتها العسكريتاريا قبل الأصوليات الدينية وحروبها المفتوحة من أفغانستان وإيران باتّجاه المنطقة العربية.

وبالتزامن مع الدعوات الغربية لتحصين الداخل اللبناني لمواجهة الأزمة، ينذر الإنسحاب الأميركي من أفغانستان بإنطلاق دورة الصراعات الأصوليّة بنسختها الثانية. سيطرة طالبان المتسارعة على المعابر الحدودية والتوسّع نحو نقاط مع طاجكستان يبدو عاملاً مقلقاً لكلّ من روسيا وإيران وتركمانستان في ظلّ عدم اتّضاح الرؤية ومقاصد طالبان. فالتحذيرات الصادرة عن وكالة أنباء «تسنيم»، إحدى أذرع الحرس الثوري الإيراني الإعلامية وعن صحيفة «كيهان» التابعة للمرشد علي خامنئي، تدعو الشيعة الهزارة في أفغانستان لعدم الإلتحاق بالحشد الشعبي والتطوّع للحرب ضد طالبان، بزعم أنّ الحركة تنوي ممارسة إبادة جماعية ضد الشيعة وضربهم.وتتهم الصحيفة الولايات المتّحدة باللجوء إلى الحرب المذهبية كأفضل خيار للقضاء على الأمن في أفغانستان. ومع سعي طهران لبناء الجسور مع حركة طالبان السنيّة المتشددة، تحظى ميليشيات فاطميون الشيعية الأفغانية المتشددة بمكانة خاصة لدى إيران نظرا للدور الذي لعبته في المعارك في سوريا ضمن فيّلق القدس في قتال المنظّمات الجهادية.

فهل يكرّر «الشيعة الأفغان» ظاهرة «الأفغان العرب» بدعوة المقاتلين الشيعة من الدول العربية للجهاد في أفغانستان ضد حركة طالبان والتأسيس لداعش بنسخة شيعية هذه المرة؟ أم تنجح دعوات الدول الغربية ومروّجو نظريّة الحلّ من الداخل اللبناني في إنقاذ شيعة لبنان من الإلتحاق بالجهاد الأكبر، وهل تسمح طهران بذلك؟

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات

Twitter: @KMHamade

khaledhamade@rfcs-lb.org