هنالك اقتصادات عدة ضعيفة تعاني في وجه التحديات الكبيرة. يشير صندوق النقد الدولي الى ضرورة العمل لتقوية هذه الاقتصادات عبر خطوات تدريجية وليس دفعة واحدة. الاصلاحات المالية ضرورية دائما ولا بد من خطوات جديدة متتابعة لتقوية الموازنات التي تسمح لادارات الدول بمواجهة التحديات. فالمؤسسات السياسية والادارية الوطنية ضعيفة ولا يمكنها أن تنفذ الاصلاحات المطلوبة كما أن الفساد منتشر. يشير الصندوق الى أن حوالي 20% من أعضائه يعتبر دولا ضعيفة ويحتاج الى مساعدة الـ8% الباقين. خمس دول العالم ضعيفة وهي نسبة مرتفعة ولا تعني طبعا أن الآخرين بصحة جيدة وانما بصحة أفضل.
هنالك هيكلية مالية مشتركة لهذه الدول أي هدر الانفاق وانتشار الفساد وصعوبة تحصيل الضرائب خاصة المباشرة كالضريبة على الدخل. تتكل على الضرائب الجمركية التي يسهل تحصيلها وان سببت ارتفاع أسعار السلع الأساسية. تعاني أيضا من صعوبة تجانس الواردات مع الانفاق في التوقيت والقيمة مما يؤثر سلبا على قدرات الدول الاجتماعية. تبقى عاجزة في معظم الأحيان عن تلبية طلبات المواطنين وحاجاتهم الأولية خصوصا في الطبقات الوسطى وما دون.
ما الذي يميز هذه الدول؟ أكثر من نصفها يقع في أفريقيا وعلى سبيل المثال أنغولا، شاطئ العاج، مالي وليبيريا. في أوروبا، هنالك دولتي البوسنة والهرسك كما كوسوفو. في منطقتنا، هنالك العراق، ليبيا، سوريا، السودان ولبنان بسبب صراعاتنا الداخلية المستمرة. في أميركا هنالك هاييتي وفي آسيا النيبال وميانمار وغيرها.
في الأرقام وخاصة من ناحية مستوى الناتج المحلي الاجمالي الفردي، نرى أن الدول الضعيفة تراجعت بين فترتي 2006\2007 و 2014\2015 من 1549$ الى 1475$ بينما تقدمت الدول الأخرى من 3661$ الى 4429$. في عجز ميزان الحساب الجاري من الناتج، ارتفع عجز الدول الضعيفة من 1,3% الى 5,4% كما ارتفع عجز الموازنة من 2,4% الى 2,7% بين نفس الفترتين. تشير الأرقام الى صعوبة الأوضاع الاقتصادية والفشل في معالجتها بما فيها التضخم والبطالة بالرغم من حصولها على مساعدات وهبات. الاقتصاد اللبناني أصبح ضعيفا وانتقل من الاقتصادات المتوسطة الى ما دون بسبب سقوط الليرة والأجور وسؤ المعالجة والفساد.
لا تشبه هذه الدول بعضها البعض من ناحيتي الهيكلية الاقتصادية والنتائج المحققة وحتى من ناحية مصادر الضعف وحجمه. عموما التنمية الاجتماعية ضعيفة ويوجد خلل كبير في التوازنات الاقتصادية والمالية. الأكثرية الساحقة منها تتواجد فيها حروب داخلية أو مرتبطة بحروب خارجية. هنالك مجموعة تقع داخلها أو تعاني من كوارث طبيعية قاسية. نشاهد الحرائق التي تضرب بعض الدول والتي تقتل الأشجار وتزيل بعض الحيوانات من الوجود. شهدنا ما حصل من حرائق وفياضنات مؤلمة في بعض الدول التي تعاني أيضا من انقسامات داخلية توتر الأجواء وتهشل الاستثمارات، فيرتفع فيها الفقر.
تعاني الدول الضعيفة من فساد كبير منتشر في القطاعين العام والخاص ويعرقل مسيرة النمو واداء الادارة تجاه المواطن. هنالك حوكمة ضعيفة أي شفافية غائبة أو مزيفة تؤثر سلبا على المؤسسات العامة في انتاجيتها ودورها الاجتماعي. لا يستطيع المواطن اسماع صوته ضمن الآليات الديموقراطية ان وجدت، فيلجأ الى العنف المبني على الغضب والكراهية. هنالك تعلق بالحكم على حساب الشعوب والمصلحة العامة. ماذا يعني الحكم والحكومة اذا كان مفروضا على المواطن واذا كانت أكثرية الموطنين تعارضه؟
أي نظام سياسي أو مالي أو اجتماعي في دول نامية أو ضعيفة يجب أن ينظر الى عدالته أي الى تأثيره على الطبقات الوسطى وما دون. تعاني الدول النامية أو الضعيفة من سؤ توزع الدخل والثروة وبالتالي هنالك ظلم تجاه الفقراء. في لبنان مثلا 88% من الحسابات المصرفية هي دون ال 50 ألف دولار، فمن أين يرممون خسائر انفجار 4 آب؟ ما يجري عالميا في المدن من شغب سببه الفقر والحاجة دون أن ننكر وجود المخربين.
في الايرادات الضرائبية، تحصل الدول الضعيفة 15% نسبة للناتج مقارنة ب 19% للأخرى. الفارق لا يقتصر فقط على النسبة وانما أيضا على هيكلية الضرائب. ليس هنالك توزع صحي للايرادات الضرائبية في الدول النامية بل ترتكز على مصادر محدودة لصعوبة الرقابة وغياب المحاسبة والمساءلة. في الانفاق على المواضيع الاجتماعية، فهو أدنى في الدول الضعيفة لكنه أعلى على العسكر والأمن كما على الأجور. تشير هذه الوقائع الى سؤ التوزع والهدر والفساد والى عدم فعالية الانفاق العام.
ما العمل؟ يجب وضع أنظمة ضرائبية مناسبة تسهل التحصيل والرقابة. المواطن لا يتحمس لتسديد الضرائب عندما يعرف أن الأموال تسرق أو تهدر. هنا تكمن أهمية الشفافية والمحاسبة. أيضا يجب ترشيد الانفاق وتعزيز قوانين المحاسبة تحقيقا للعدالة والشفافية. يجب تحديث المؤسسات العامة والقوانين ولا يمكن التخبؤ وراء القديم المهترئ. في لبنان مثلا، تتكلم الحكومات المتعاقبة على ضرورة اقفال عشرات المؤسسات العامة بسبب التكلفة وسؤ الاداء أو لغياب الحاجة لها. تبقى المعالجات كلامية.
لا بد من عرض الواقع في دولتين كانتا غنيتان وعانتا وتعانيان من المشاكل السياسية والاقتصادية التي أفقرت شعوبها. نتكلم عن فنيزويلا التي تزيد معاناتها كما عن اليونان التي تصحح أوضاعها تدريجيا.
في فنيزويلا، هنالك فارق كبير بين السبعينات واليوم. في الماضي، كانت هنالك ضمانات اجتماعية سخية. مستوى التعليم والصحة كان عال بسبب الايرادات النفطية وحسن استعمالها. الصحافة كانت حرة وحية والبنية التحتية ممتازة. أما اليوم، فنيزويلا ضعيفة وفقيرة و10% من الناس هاجر بسبب الجوع والفقر والخوف. انخفض الناتج أكثر من 50% خلال 5 سنوات. تدنت النسبة الشرائية للفقراء 80%. انخفض وزن المواطن العادي 11 كيلو مما يشير الى سؤ التغذية والفقر. التضخم مرعب وكل السلع تنقص وينتشر الفساد ويعم سؤ الادارة.
هنالك دولة أخرى عرفت طريقا مختلفا بل معاكسا وهي اليونان التي أحسنت ادارة نفسها. كانت اليونان في أوضاع كارثية في 2008 لكنها صححتها تدريجيا بمساعدة الأوروبيين وصندوق النقد. من نمو سلبي قدره 10% في 2010 الى نمو ايجابي 1,8% في 2019 علما أن الدين العام بقي مرتفعا في حدود 180% من الناتج في 2019. أصلحت اليونان مؤسساتها العامة بتكلفة 18 مليار يورو وحققت في 2019 فائضا في الموازنة. الجهود تثمر علما أن المشاكل لم تحل كلها، لكن الواقع هو نقيض فنيزويلا ومضرب مثل في الانقاذ المدروس والجدي. طبعا الكورونا تغير الكثير، ولا بد من درس تأثيرها مستقبلا على الاقتصادين.
الدكتور لويس حبيقة