بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 آذار 2022 07:06ص اقتصاديات الحرب الروسية

حجم الخط
ما يدعو للعجب أن الحرب الروسية المباشرة على أوكرانيا وغير المباشرة أو بالواسطة على حلف شمال الأطلسي لم تنتهِ سريعا كما توقع بعض الخبراء العسكريون.  كان البطء أو التباطؤ مفاجأة كبيرة وواضحة وما زالت الحرب تشعل الحوار السياسي كما الاقتصادي.  في كل حال، النتائج السلبية كبيرة ولن تكون مؤقتة.  الحرب الطويلة تستنزف الاقتصاد الروسي ماديا وبشريا ولا مصلحة لروسيا لاطالتها، كما أن تصريحات زيلينسكي تؤشر الى استمرار رفض اوكرانيا للشروط الروسية.  تبعا للاحصائيات الدولية، عدد أفراد الجيش الروسي في سنة 2019 كان مليوناً ونصف مليون مقارنة بـ 311 ألف لأوكرانيا.  لذا النتائج كان يجب أن تكون حاسمة وسريعة.

أما الانفاق على الدفاع فكان 63 مليار دولار في روسيا في 2019 و 6,4 مليار دولار في أوكرانيا.  نسبة للناتج المحلي الاجمالي، بلغ الانفاق على الدفاع 4,26% في روسيا و4,13% في أوكرانيا أي متقارب جدا. اذا قارنا روسيا بحلف شمال الأطلسي تصبح أرقام الغرب أكبر وأهم.  مثلا في الولايات المتحدة عدد الجيش كان في 2019 مليون و 400 ألف مع انفاق قدر بـ 784 مليار دولار مما يشير الى التفوق الكبير في العتاد والمنافع. اذا جمعنا الدول الغربية، يصبح الفارق أكبر بكثير.

من الأسباب المتداولة لعدم انتهاء الحرب هي أولا المقاومة الأوكرانية المدهشة في صلابتها وعزيمتها وقوتها وعقيدتها. فعلا تدهش العالم ولا بد من دروس تتعلم منها كل الدول الضعيفة نسبيا والقوية معنويا.  الدمار الحاصل موجع وستتطلب اعادة البناء سنوات طويلة.  الأوكراني ينزح الى الدول المجاورة وخصوصا بولندا ورومانيا، وهنالك 3 ملايين مواطن حتى اليوم تركوا بلدهم.  حسن استقبالهم واضح حتى في المنازل وسيتوزعون مع الأيام والأسابيع على كل الدول الأوروبية.  السبب الثاني هو الدعم العسكري الغربي الفاعل والصامت بالأسلحة المناسبة والحديثة التي هددت روسيا بقصف امداداته.  لم يتم القصف على ما يظهر لأن ذلك يمكن أن يشعل الحرب مباشرة مع الغرب ولا مصلحة لأحد بذلك.  فالغرب يرفض حتى اليوم اغلاق الجو الأوكراني تجنبا للحرب الشاملة، وتبادله روسيا بعدم قصف الامدادات العسكرية السخية. حتى في الحروب هنالك تبادل مصالح واضح.

السبب الثالث لطول الحرب هو التأخر الواضح للجيش الروسي في العمليات اللوجيستية المتنوعة. ليس المقصود الأسلحة فقط وانما الآليات التي كان يعتقد أنها ستكون أكثر تطورا في التكنولوجيا والسرعة والفعالية. الأعداد مهمة لكن الأهم هي النوعية في اداء المهمة والوصول الى الأهداف.  يظهر أن الامدادات العسكرية وغير العسكرية من موسكو لجيشها المنتشر ليست سريعة وكاملة حتى ترفع معنويات الأفراد في ظروف مناخية باردة جدا. اذا تعب الجيش، تصبح المهمة أصعب والتكلفة أكبر. أما السبب الرابع فهو تأثير العقوبات الغربية التي بدأت تظهر في كل ما يخص المال والمصارف والتجارة.  روسيا قوية عسكريا وأمنيا وتكنولوجيا، لكن اقتصادها ما زال غير متطور بالمقياس الغربي اذ يعتمد على صادرات المواد الأولية خاصة النفط والغاز للاستمرار والنمو.  يمكن القول ان النفط والغاز يشكلان 60% من الصادرات الروسية و 39% من ايرادات الموازنة وهذا مثال واضح للمخاطر الاقتصادية المرتفعة.

بالاضافة الى التأثير العام على التجارة الدولية والعلاقات التجارية العامة، يأتي التأثير الاقتصادي الأكبر على العالم من مصدرين أساسيين هما الطاقة والحبوب وخاصة القمح. في الطاقة، أهمية روسيا معروفة لكن الدول التي ستتأثر كثيرا هي الأوروبية وخاصة ألمانيا التي تعتمد كثيرا على الواردات الروسية لتشغيل ماكينتها الاقتصادية المتطورة.  هذه التأثيرات واضحة لكنها ستقوى تدريجيا بسبب عدم قدرة الأوروبيين على استبدال الواردات الروسية بأخرى سريعا ودون تكلفة أعلى. لا ننكر أن الأوروبيين يسعون جاهدين ولو متأخرين لتنويع وارداتهم النفطية من مصادر جغرافية أخرى أهمها دول الخليج وحتى فينزويلا. أمام الحاجة الاقتصادية الملحّة يصبح الصراع السياسي ثانويا، والتجارب العالمية كبيرة وعديدة في هذا المضمار.

في الموضوع النفطي، أوروبا هي المتأثرة الأساسية بالصادرات الروسية للطاقة اذ استوردت في سنة 2020 حوالي 38% من حاجاتها من الغاز من روسيا (55% لألمانيا) و49% من الفحم و 26% من النفط مما يشير جليا الى الأهمية الروسية بالنسبة لدول الوحدة الأوروبية.  بين سنتي 2010 و2020، ارتفعت نسبة استيراد الغاز الروسي في أوروبا من 31% من المجموع الى 38% وأكثر بكثير للفحم أي من 22% الى 49%.  أما في النفط، انخفضت الحصة الروسية من 35% الى 26% مما يشير الى تنوع جغرافي أفضل.  الاتجاه الذي يجب أن تسلكه أوروبا تدريجيا هو تخفيف الاعتماد على روسيا وشراء الطاقة أكثر فأكثر من دول الخليج، كما شراء الحبوب من أماكن أخرى ولو بعيدة. النتائج تحتاج الى الوقت. كان يمكن للتأثير النفطي أن يكون أكبر لولا التنويع النوعي المعتمد منذ زمن في بعض الدول الغربية والذي يحول الطاقة المستعملة الى المتجددة أي الشمسية والمائية وغيرها لأسباب بيئية واقتصادية كما سياسية.

أما تأثيرات الحرب على الاقتصاد الروسي فهي كبيرة جدا وأهمها العقوبات المالية والتقنية كما تلك المفروضة على الأغنياء والسياسيين وقطاع الأعمال والتي بدأت تطبق وتقوى مع الوقت. ستتأخر الماكينة الانتاجية الروسية كثيرا اذ أن الغنى المادي والأرضي كما الاحتياطي النقدي لا يكفيان لانشاء دولة معاصرة كما يشتهي الروس أنفسهم.  مع الحرب خسر الروبل كثيرا وانهارت القوة الشرائية للمواطنين الذين يتدافعون لسحب النقد وشراء الحاجيات من المخازن. ارتفع التضخم الى نسب عالية تقدر هذه السنة ب 50%. يتوقع الاقتصاديون أن ينخفض الناتج المحلي الروسي هذه السنة 10% أو 170 مليار دولار وهي تكلفة مرتفعة جدا بكل المقاييس وكان ممكن ان تنفق على معيشة الروس وتطوير الاقتصاد.

ارتفاع أسعار الطاقة والقمح يضر عمليا بكل دول العالم وخاصة بالفقيرة والناشئة.  روسيا وأوكرانيا يصدران 28% من مجموع صادرات الحبوب العالمية وبالتالي سيكون التأثير واضحا بسبب العرض. التضخم القوي يظهر من جديد وها هي الولايات المتحدة تقود الحرب على الأسعار عبر رفع الفوائد تدريجيا بدأ من 0.25% آخر آذار.  كما أن الانتاج الزراعي في الدول الفقيرة يتأثر جدا بارتفاع أسعار السماد المنتج بكثرة في روسيا.  روسيا ليست فقط المصدِّر الأول عالميا للقمح وانما هي مصدر انتاج وتصدير للأسمدة الزراعية المهمة جدا في الانتاج.  كل سكان العالم سيتأثرون سلبا من الحرب الروسية وخاصة الفقراء أينما هم.