بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 آذار 2023 01:00ص الأبعاد الاستراتيجية للاتفاق السعودي - الإيراني والتوقعات منه

حجم الخط
نجحت الصين في تحقيق ما فشلت في تحقيقه خمس جلسات من المفاوضات المباشرة وغير المباشرة التي عقدت في بغداد وعمان من تحقيقه خلال السنوات الثلاث الماضية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية من اجل احتواء اجواء التوتر بين الدولتين وعلى المستوى الاقليمي.
من المرجح ان يؤدي الاتفاق الذي اعلن يوم الجمعة الماضي في بكين، اذا ما التزم الطرفان بمندرجاته اولاً بإعادة فتح سفارتيهما بعد انقضاء سبع سنوات من القطيعة الدبلوماسية، وثانياً بإحياء الاتفاقيات الموقعة سابقاً بين الرياض وطهران والتي تشمل الامن والتجارة والاستثمار والثقافة. لكن يبقى الدور الذي لعبته الصين لتحقيق هذا الاتفاق بالانجاز السياسي والاستراتيجي الابرز على المستويين الدولي والاقليمي. تحوّلت الصين من خلال رعايتها لهذا الاتفاق الهام جداً لمستقبل المنطقة برمتها، اذا ما وفت ايران بتنفيذ ما تعهدت به الى لاعب اساسي في الشرق الاوسط والذي بقي حكماً خاضعاً للنفوذ الاميركي حصراً منذ منتصف خمسينات القرن الماضي.
تأتي اهمية هذا الاتفاق على خلفية امكانية تغيير ايران لسلوكياتها المزعزعة لأمن واستقرار العديد من الدول العربية، ومن ابرزها العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين، على صعيد آخر يمكن توقع ان يفتح هذا الاتفاق كوة في جدار المباحثات الخاصة بالبرنامج النووي الايراني، وعلى اعتبار ان الصين هي احدى القوى الدولية (1+ P5) التي ساهمت ووقعت على اتفاقية فيينا عام 2015.
لا بد من الاشارة الى اهمية هذا الاتفاق الاستراتيجي بالنسبة للصين والتي تسعى دون شك الى تنمية علاقاتها مع كل من ايران والمملكة العربية السعودية كمصدرين اساسيين لاحتياجات الصين المتنامية من الطاقة، حيث تستورد من المملكة ما يقارب من مليوني برميل من النفط يومياً، كما تستورد من ايران ما يزيد على مليون برميل يومياً، وتعتبر الصين شريكاً تجارياً اساسياً للمملكة وايران.
تحولت الصين بعد هذا الاتفاق الى لاعب اساسي في سياسة الطاقة، وتكون بالتالي قد كسرت الاحتكار الاميركي لهذا الدور منذ عقود عديدة. لكن سيطرح نجاح الاتفاق وما سيحمله ذلك من تنامي للنفوذ الصيني في هذه المنطقة الحساسة من العالم من تساؤلات عن مدى تقبل الولايات المتحدة واسرائيل للمتغيرات الجديدة على موازين القوى، وتأثير ذلك على مستقبل البرنامج النووي الايراني، وعلى فكرة حل النزاع مع الفلسطينيين.
من المؤكد ان الصين تمتلك مصلحة استراتيجية في تحسين العلاقات بين طهران والرياض وذلك انطلاقاً من مصالحها الكبيرة والحيوية في منطقة الخليج وابرزها أمن الطاقة، حيث تذكر بكين مدى التأثيرات السلبية التي خلّفها استهداف الحوثيين للمنشآت النفطية السعودية عام 2019، حيث قفزت اسعار النفط بنسبة 14 في المائة خلال يومين.
وتخشى الصين من حدوث السيناريو الاسوأ في منطقة الخليج والذي يتمثل بنشوء نزاع مباشر بين المملكة وايران، مع كل ما سيتركه ذلك من تداعيات على واردات النفط وعلى المصالح الاقتصادية الصينية.
من الجانب الخليجي فقد ارتبطت الحكومات باتفاقيات امنية مع الولايات المتحدة تضمن امنها بعد احتلال الكويت من قبل صدام حسين، كما انها اتكلت على الدعم العسكري الاميركي، وخصوصاً مشتريات الانظمة الدفاعية المتطورة لمواجهة مخاطر التهديدات الايرانية، خصوصاً على ضوء اعلان طهران نيتها لتصدير الثورة الاسلامية وفي ظل سياستها المكشوفة لتشكيل مليشيات مسلحة، تستعملها كأذرعة عسكرية لفرض نفوذها وهيمنتها على عدة دول عربية.
لكن بدأت الولايات المتحدة بالتنصل من التزاماتها لحماية الدول الخليجية، في عهد الرئيس اوباما، والذي ابلغ قيادات هذه الدول بأن عليها واجب تقديم المساهمات المالية اللازمة لقاء التعهدات الاميركية.
وجاءت بعد ذلك الادارة الجمهورية في عهد ترامب لتنسج بعض علاقات التعاون والثقة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ولكنها سرعان ما تراجعت في عهد ادارة جو بايدن الديمقراطية، على صعيد آخر لم تبذل الادارة الاميركية الجهود المطلوبة لحل النزاع في اليمن او للقيام بردود الفعل العسكرية اللازمة لحماية الداخل السعودي من قصف الصواريخ والمسيَّرات الايرانية القادمة من اليمن، والتي طالت المنشآت النفطية الاساسية ومطار العاصمة الرياض، حيث كانت ردة فعل الادارة الاميركية والرئيس ترامب اعلان نواياها بأنها لن تتدخل في اي حرب تندلع في الشرق الاوسط.
في ظل علاقات الولايات المتحدة القريبة تاريخياً من الدول الخليجية، والتعاون القائم في مجال التسليح والتدريب، وفي ظل اجواء العداء المتنامية منذ قيام الدولة الاسلامية في ايران، لم يكن بوسع واشنطن القيام بأية وساطة بين المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون وبين ايران.
استغلت الصين حالة القصور الاميركي وتنامي علاقاتها في حقل الطاقة والتبادل التجاري الواسع مع السعودية وايران لدعوة الجانبين الى بكين للدخول في المفاوضات التي اثمرت بتوقيع الاتفاق الاخير.
السؤال المطروح وبإلحاح يتعلق بمدى واقعية هذا الاتفاق في حل الخلافات الكبيرة والمتنامية خلال عقود بين المملكة وايران، وبمدى قدرة الصين على مواكبة تنفيذه، وتطويره من اجل حل النزاعات القائمة في اكثر من دولة عربية، ومن ابرزها الحرب في اليمن؟
ويتطلب هذا الامر اولاً من الصين السعي للابقاء على الحوار الصريح والبنَّاء بين مسؤولي البلدين، من اجل تضييق فجوة الخلافات التي قد تنشأ في اية لحظة، وخصوصاً اثناء بحث مستقبل الميليشيات التي شكلتها ايران من اجل شن حروب بالوكالة داخل الدول العربية، وبشكل يهدد المصالح السعودية.
في الواقع لا يمكن الافراط في التفاؤل حول نتائج الاتفاق، مع توقع بروز قيادات ايرانية محافظة ترغب في الاستمرار في حروبها بالوكالة في عدد من الدول العربية. يفترض نجاح الاتفاق بأن لا تكتفي المملكة وايران في اعادة فتح سفارتيهما، بل الانطلاق من نقطة البداية هذه لتطوير تعاونهما، ويستدعي هذا الامر مراقبة التطورات الحاصلة بينهما، وبالتشديد على الامور الآتية:
اولاً، مدى تراجع الهجمات والمواقف الايرانية العدائية ضد المملكة وضد مجلس التعاون الخليجي. ويجب ان لا يقتصر ذلك على وقف الهجمات الصاروخية، والهجمات بالمسيَّرات، ووقف المخططات الارهابية تجاه المملكة ودولة الامارات، بل يتعداه لوقف امداد الحوثيين بالسلاح للاستمرار في حرب اليمين، بالاضافة الى ضبط والعمل على حل الاذرعة الايرانية المسلحة الموجودة في لبنان وسوريا والعراق.
ثانياً، مراقبة مدى قبول ايران بالعودة الى الاتفاق النووي، ومدى قناعتها بالتخلي عن برنامجها لتخصيب اليورانيوم بكميات كافية لصنع السلاح النووي، والذي يثير الهواجس المشروعة لدى المملكة وبقية دول الخليج. كما انه يمكن ان يتسبب بحرب اقليمية واسعة تشنها اسرائيل وبمشاركة اميركية ضد ايران، وهو امر كفيل بتخريب الاتفاق بين طهران والرياض. لا بد ان تدرك ايران الهواجس التي تشعر بها المملكة العربية السعودية من استكمال ايران لمشروعها النووي.
ثالثاً، ما هي المتغيرات التي سيفرضها هذا الاتفاق على موازين القوى الاقليمية، وهل سيفرض على الدول العربية الاخرى ومنها لبنان ضرورة التوجه شرقاً، والقبول باستبدال المظلة الاميركية والاوروبية بالمظلة الصينية والايرانية. ولن يقتصر هذا التوجه على الابعاد الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية بل سيشمل البُعدين الامني والعسكري.
اما في الشأن اللبناني فإنه من الطبيعي ان يتوقع اللبنانيون حصول تطور فعلي في اهداف وسلوكيات ايران، بما ينعكس بشكل مواقف ايجابية من قبل حزب الله للانخراط مع قوى المعارضة السيادية في تفكيك الازمة الراهنة، واعادة بناء الاقتصاد واعادة تشكيل السلطة. لكن تبقى الامور معلقة على مدى سرعة حصول مثل هذه التطورات.