بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 نيسان 2020 08:23ص الإنزلاق إلى حرب أهلية

حجم الخط
تدعو الأحداث والأزمات التي يشهدها لبنان ومخاطر تداعياتها على حياة ومستقبل اللبنانيين، أصحاب الرأي والبصيرة إلى التشوُّف إلى عواقب الأمور، مع كل ما يُمكن ان تحمله من خير وشر. ومن الطبيعي أن لا يسلك هؤلاء المحللون مسلك ضعفاء العقول الذين يستكشفون عواقب امورهم ومستقبلهم لدى منجّم أو حاسب أو ضارب مندل أو لدى قارئ في كتاب الجفر، فالطريق الصحيح إلى ذلك تمرّ عبر العودة إلى الأزمات الحادّة والخطيرة التي مرّ بها لبنان خلال مراحل الحرب الأهلية، واسترجاع بعض الدروس والعبر، والتي يمكن ان تساعدنا على البحث عن المخارج اللازمة من الأزمة السياسية والإقتصادية، والمالية الراهنة.

لا يُمكن لكل قادة لبنان السياسيين الراهنين الادعاء بعدم معرفة مجريات الحرب الأهلية بكل تفاصيلها، أو تجاهل تكاليفها الباهظة على اللبنانيين بالأرواح وبالاقتصاد وبالدمار العمراني، مع ما تركه كل ذلك من جروح عميقة في الذاكرة الإنسانية والوطنية. فالحكام اليوم هم أنفسهم أمراء تلك الميليشيات المسلحة التي خاضت تلك السلسلة من الحروب الداخلية خلال ما يزيد على عقد ونصف..

كان من المفترض أن يحسن هؤلاء الأمراء قيادة الجمهورية الثانية التي نشأت في ظل اتفاق الطائف، وأن يعوّضوا النّاس عن الخسائر التي تكبدوها نتيجة حروبهم، لكنهم انتقلوا من متاريسهم إلى مراكز السلطة حاملين معهم كل الاحقاد ومشاعر الكراهية السابقة من أجل توظيفها في حروبهم السياسية، ومساعيهم لتحقيق مصالحهم الخاصة، في النفوذ والثروة مع سعي متواصل واضح لاحتكار السلطة وإلغاء الآخرين، لم يكن من الممكن لقيادات سياسية مع هكذا خواص في نفوسها تنتج سلطة فاعلة ومتجانسة، بعد انسحاب القوات السورية من لبنان في نيسان عام 2005، وبعد تحرر هذه القوى من كل الضوابط التي فرضها عليها النظام المخابراتي السوري الذي حرص على تسييرها كالدمى المتحركة من أجل خدمة مشروعه الخاص في لبنان وفي المنطقة.

لقد أمعنت هذه القوى السياسية في فسادها وفي تخريبها لبنية الدولة، دون رادع أو وازع أخلاقي، خلال عقد ونصف، فارتفعت ديون الدولة من عشرين مليار دولار إلى تسعين ملياراً، حيث جرى نهبها وهدرها، بالإضافة إلى عملية تخريب وإفساد ما تبقى من مؤسسات الدولة، بما فيها المؤسسات الثقافية والاكاديمية وذلك بعد وضعها في عهدة أتباعهم وأزلامتهم.

بالرغم محاولات حثيثة من بعض الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وبالرغم من الجهود المشكورة التي بذلتها الدول الغربية وبمبادرات فرنسية متكررة لمساعدة لبنان علي تخطي أزماته السياسية والاقتصادية والمالية المتكررة، فقد استمرت القوى السياسية في خلافاتها وفسادها، حيث فوّتت كل الفرص والمبادرات الإصلاحية، والتي كان آخرها مؤتمر «سيدر»، وبالتالي التسبب بضياع 11 مليار دولار، من المشاريع الأساسية، ومن بينها مشروع الكهرباء، والذي شكل أكبر مزاريب الهدر والفساد. مخطئ من يعتقد بأن هذه الطبقة السياسية الفاسدة، والتي أدانها الشعب اللبناني منذ بداية انتفاضته في 17 تشرين تحت شعار «كلن يعني كلن» هي جادة لقبول أي مشروع إصلاحي، يمكن ان تضعه حكومة حسّان دياب، والتي جاءت مسلوبة الرؤية والقرار كونها حكومة مستشارين لدى بعض الأفرقاء السياسيين الأساسيين كحزب الله وأمل والتيار الوطني الحر وتيار المردة. انها حكومة اللون الواحد، أو حكومة محور المقاومة والممانعة، وهي دون شك في موقع متعارض مع إرادة كل الدول العربية والغربية والمؤسسات الدولية التي يُمكن ان تساعد لبنان على تخطي أزمته المالية والاقتصادية الراهنة.

لا يظهر في نهاية النفق المظلم الذي دخل فيه لبنان، خصوصاً بعد تفاقم الاوضاع المعيشية بسبب انهيار قيمة الليرة وارتفاع أسعار السلع الضرورية، أي بصيص نور، وهذا ما دفع بجموع المواطنين للإندفاع من جديد إلى الشارع، مع ميل ظاهر للعنف والاقتصاص من أصحاب المصارف ومن الطبقة السياسية على حدّ سواء. ويبدو بأن تجاوز المتظاهرين لمخاطر أزمة «كورونا» ما هو سوى الدليل الساطع على تحول انتفاضة 17 تشرين إلى ثورة حقيقية. سينتج عنها المزيد من «التخندق» السياسي بين قوى المقاومة والممانعة المشاركة في الحكومة والقوى السياسية الأخرى المعارضة للحكومة، وبما يفتح في المجال لانقسام سياسي عامودي، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى عنف، يؤسس لفتنة وطنية، وبالتالي استعادة أجواء الحرب الأهلية، والتي يمكن ان تستغل ليتحول لبنان لمسرح عمليات لمواجهة حامية بين إيران وحلفائها والولايات المتحدة واسرائيل.

تتطلب خطورة إمكانية فلتان الامور من نصابها ان لا يشتبك الجيش والقوى الأمنية مع أهلهم وشعبهم، وأن تستلهم القيادات العسكرية أوامرها من التجارب والمواقف الوطنية السابقة للجيش وقياداته. كما تتطلب المزيد من الحكمة لدى حزب الله لعدم الدفع لتحويل لبنان إلى ساحة مواجهة بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل. وفي النهاية لا بدّ من مبادرة على مستوى رئاسة الجمهورية للدعوة لطاولة حوار وطني لاستيعاب مخاطر التفجير، والبحث عن مبادرة إصلاحية جدية.