بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 أيلول 2021 08:47ص التحديات السيادية التي تواجهها الحكومة

حجم الخط
لا يمكن لعاقل ان يعتبر ان طريق الحكومة سيكون سهلاً ومعبداً باتجاه مواجهة التحديات وتنفيذ الإصلاحات المطلوب تنفيذها من المجتمع الدولي ومن الدول الصديقة والشقيقة التي تربط مساعداتها وقروضها بتنفيذ عدد من الإصلاحات البنيوية، مثل الكهرباء والتصحيح المالي في الدولة ومصرف لبنان والقطاع المصرفي والذي يُشكّل مع تأمين التيار الكهربائي الخطوة الأساسية لاستعادة المبادرة مالياً واقتصادياً واجتماعياً. لكن ذلك وحده لن يكفي لإعادة بناء الثقة بين الدولة وبين الداخل والخارج على حدّ سواء، حيث يبدو من الضروري ان تتصدى الحكومة لمجموعة من القضايا الوطنية الضاغطة والملحة.

استعرضت في مقال الأربعاء الماضي الأولويات المحرجة التي تواجهها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، والتي تخرج عن لائحة الإصلاحات البنيوية التي يُصرّ عليها المجتمع الدولي وأصدقاء لبنان كشرط لفتح باب المساعدات والقروض امام الدولة اللبنانية. وتضمنت هذه الاولويات المحرجة ضرورة اطلاق وتفعيل عمل إدارات الدولة والتي بلغت حالة من شبه الجمود الكلي بسبب أزمة المحروقات، وبسبب تآكل القيمة الشرائية للرواتب بعد الانهيار المتسارع لقيمة الليرة اللبنانية تجاه الدولار. وتضمن المقال أيضاً تحذيراً للحكومة من مخاطر الأزمة المعيشية الراهنة على الاستقرار العام، مع التوجيه لضرورة تسريع عملية توزيع البطاقات التمويلية على العائلات المحتاجة، وعلى ضرورة قيام وزارة الاقتصاد بدورها في مراقبة أسعار السلع وضبط جشع التجار والمحتكرين.

لكن النجاح الفعلي للحكومة لا يتوقف على معالجة هذه الأولويات المحرجة بل يتخطى ذلك لبناء رؤية إصلاحية شاملة، بالإضافة إلى ضرورة التعامل ومعالجة بعض القضايا الوطنية الكبرى، والتي تؤثر على وحدة اللبنانيين وعلى مستقبل لبنان السياسي والاقتصادي.

ويأتي في رأس قائمة هذه القضايا الوطنية موضوع استعادة الدولة لسيادتها على جميع الأراضي اللبنانية بما في ذلك ضبط المعايير الحدودية مع سوريا وضبط عمليات تهريب المحروقات والمواد الأساسية والدولارات والتي تستنزف قدرات لبنان وموجوداته من العملات الصعبة، وتؤثر سلباً على حياة اللبنانيين اليومية.

يُشكّل موضوع استعادة الدولة لسيادتها ولقرار السلم والحرب موضوعاً خلافياً، بالغ التعقيد بسبب وجود حزب الله ممثلاً في الحكومة، وبسبب الانقسام السياسي الحاصل بين حزب الله وحليفه التيار الوطني الحر وحركة أمل من جهة وبين بقية القوى السياسية المشاركة في الحكومة، بالإضافة لموقف عام معارض لأكثرية اللبنانيين من سلاح حزب الله وهيمنته على القرار الوطني.

من المؤكد بأن موضوع السيادة وسلاح حزب الله وهيمنته لن يحل بقرار يتخذ في مجلس الوزراء بل لا بدّ من معالجته بتؤدة من خلال الدعوة لطاولة حوار وطني، وبمساعدة ودعم من القوى الدولية والإقليمية الصديقة من أجل دعم ما يمكن ان يتقرر من توافقات على طاولة الحوار. انه مسار شاق وطويل ويتطلب توافر ظروف سياسية داخلية ودولية لانجاحه.

لكن لا يمنع ذلك من السعي الذي بدأ بمبادرة من البطريرك مار بشارة بطرس الراعي لتحقيق الحياد الإيجابي للبنان، والذي يعني تحديداً إبقاء لبنان خارج كل محاور الصراع الإقليمي والدولي، مع استثناء قضية السلام مع إسرائيل، ودعم حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم وعودة اللاجئين إلى فلسطين.

اما بخصوص ضبط المعابر الحدودية ووقف التهريب إلى سوريا فهي قضية متفرعة عن حق السيادة، ولكنها تؤثر بشكل كبير ودراماتيكي على الأوضاع الاقتصادية والمالية والمعيشية في لبنان، ولا بدّ من طرح الحلول اللازمة لها بسرعة وجدية، مع ضرورة السعي بقوة مع حزب الله لاقناعه بضرورة فتح المجال لقوى الشرعية اللبنانية لإعادة فرض سيطرتها على هذه المعابر، وبالتالي تغليب منطق الدولة على منطق مصالح الدويلة. وتشكل قضية ضبط المعابر الحدودية مؤشراً على مدى جدية الحكومة في ممارسة وظائفها السيادية، وسيكون لها مردوداً ايجابياً على مسعى رئيس الحكومة لتصحيح واستعادة علاقات الود والصداقة والتعاون بين لبنان والدول الخليجية، وخصوصاً مع المملكة العربية السعودية.

لا بدّ أيضاً من التوقف عند دور الحكومة من مشكلة ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل من خلال معاودة المفاوضات غير المباشرة بمشاركة الأمم المتحدة وبرعاية أميركية. في رأينا لم يعد من الممكن أو الجائز إبقاء موضوع ترسيم الحدود للمنطقة الاقتصادية الخالصة رهينة التجاذبات السياسية الداخلية، فخطورة الوضع الراهن على مصالح لبنان الحيوية يجب ان تتعدّى جميع الاعتبارات والمصالح التي يعبّر عنها الأفرقاء السياسيون.

من المؤسف انه لا بدّ من الاعتراف بأن جميع الحكومات المتعاقبة لم تتعامل مع هذا الأمر بجدية من أجل الحفاظ على سيادة لبنان وحماية مصالحه الحيوية في الغاز والنفط، واقتصر تعاطي لبنان على ما يقوم به وفده العسكري في اجتماعات الناقورة، انطلاقاً من توجيهات سياسية مرتجلة تصدر عن الرئيس نبيه برّي، وحزب الله والوزير جبران باسيل كوزير سابق ومهيمن على وزارة الطاقة. وبقيت جميع الحكومات المتعاقبة منذ عام 2007 على هامش الموضوع، تطلع بين الحين والآخر على ما يجري التداول به في اجتماعات الناقورة أو ما ينقله الوسيط الأميركي السفير فريدريك هوف عندما كلف بمهمة الوساطة بين لبنان وإسرائيل.

حان الوقت، وفي ظل التطورات الضاغطة من الجانب الإسرائيلي ان تأخذ حكومة الرئيس ميقاتي هذا الأمر على محمل الجد وتتعاطى معه بمسؤولية حفاظاً على مصالح لبنان الحيوية وانطلاقاً من الضغوط الفعلية التي تمارسها إسرائيل لحل الموضوع من خلال تأكيدها على تلزيم التنقيب عن الغاز في المنطقة المتنازع عليها لشركة أميركية كبرى. وفي اعتقادي ان الرئيس ميقاتي ومعه الرئيس عون يدركان مدى أهمية وإيجابية انخراط لبنان بمحادثات ترسيم جادة وهادفة على العلاقات مع الولايات المتحدة ومع الأمم المتحدة.

لا بدّ في نهاية المطاف من طرح هذه المسألة على طاولة مجلس الوزراء والذي يضم معظم الأفرقاء والأحزاب السياسية، ومن ضمنهم حزب الله، والخروج بخطة وطنية، تشكّل منطلقاً لتشكيل لجنة دبلوماسية وتقنية للدخول في مفاوضات غير مباشرة جديدة تسعى إلى ترسيم واقعي للحدود يحفظ بالحد اللازم حقوق ومصالح لبنان الحيوية.

تبقى من المسائل الأساسية والهامة جداً مسألة فك العزلة المفروضة على لبنان منذ بداية عهد الرئيس عون، والتي تسبب بها تجاهل وفقدان السلطة اللبنانية لدورها السيادي ولمسؤولياتها السياسية والدبلوماسية تجاه الدول العربية وخصوصاً الخليجية منها، بالإضافة إلى تجاهله واهماله لصيانة علاقاته مع عواصم القرار ومع المؤسسات الدولية الكبرى. وتستدعي مسألة فك العزلة عن لبنان وتأمين انفتاح الدول الخليجية وخصوصاً المملكة العربية السعودية عليه سياسياً واقتصادياً ان تأخذ الحكومة على عاتقها مجتمعة وضع خطة لتصحيح سياسة لبنان الخارجية، والتخلص من الإرث الدبلوماسي السيئ والذي ولدته السياسات والمواقف التي عبّر عنها وزراء خارجية لبنان انطلاقاً من مصالح ضيقة مع سوريا أو انطلاقاً من محاباة لتيار قوى المقاومة والممانعة في الداخل، بالإضافة إلى أجواء العداء والهجاء المقزع والمهين التي صدرت عن قيادات حزب الله تجاه العائلات الحاكمة في دول الخليج.

لا يمكن لرئيس الحكومة ووزير الخارجية أخذ هذه المسؤولية على عاتقهما منفردين أو مجتمعين، ولا بدّ من فتح حوار مع بقية القيادات المتمثلة في الحكومة، وخصوصاً حزب الله، حيث تبدو موافقته الكاملة ضرورية للبحث في اعتماد سياسة هادئة لإعادة لبنان إلى المجتمعين الدولي والعربي، على غرار ما كان عليه في العهود السابقة. إذا توافقت الأطراف المشاركة في الحكومة على اعتماد نهج بناء في سياسة لبنان الخارجية فإنه يمكن توقع عودة لبنان إلى الحضنين الدولي والعربي، على غرار ما حدث أيام حكومة رفيق الحريري في بدايات تسعينيات القرن الماضي.

يُشكّل استحقاق اجراء الانتخابات النيابية في الربيع المقبل تحديا كبيرا امام حكومة ميقاتي، وستكون أنظار العالم متوجهة نحو ما تتخذه الحكومة من خطوات عملية لتنفيذ الاستحقاق في موعده من جهة، ولاجراءات الحكومة لتأمين انتخابات شفافة وعادلة، تفتح الباب امام طبقة الشباب لتشكيل قيادات جديدة تحل مكان الطبقة السياسية الفاسدة والفاشلة.

في النهاية هذه هي التحديات الوطنية الكبرى التي تواجهها الحكومة، والتي بالرغم من قصر فترة حكمها وبالرغم من الأولويات الإصلاحية والإدارية والمعيشية التي من المفترض ان تنال اهتمامها، فإنه يبقى من الضروري ان تسعى الحكومة لمعالجة ما يمكن معالجته من هذه القضايا الوطنية الكبرى، والتي في حال اهمالها ستؤثر سلباً على كل رجاء بعملية الانقاذ المالي والنقدي والاجتماعي.