بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 حزيران 2020 07:19ص التعلّم من الشرق! لمَ لا؟

حجم الخط
الدول الصغيرة تتعلم من تجارب الغير وخاصة من الدول الناجحة شرقا أو غربا. لبنان تعلم الكثير من الغرب ودخلت الحضارة والثقافة الغربية في دم اللبنانيين منذ عقود. عقل اللبناني غربي، وان لا نؤيد السياسات المعتمدة في الدول الغربية أو بعضها. المناهج التعليمية في المدارس اللبنانية والجامعات أيضا مقتبسة من التجارب الغربية الكبيرة. هنالك مدارس وجامعات تأسست من قبل جاليات أو مؤسسات غربية، وبالتالي لا يمكن للبناني أن يتوجه شرقا ويترك الغرب مهما ضاقت الظروف وتغيّرت الأحوال.  لكن تطوير العلاقات مع الشرق ضروري جدا والتعلم من تجاربه الناجحة أكثر من ضروري، وهذا ما ينقصنا جدا في لبنان.  في كل حال، الشرق متنوع جدا ولا يمكن التكلم عنه كمجموعة واحدة، بل مجموعات متناقضة بل مختلفة جدا بعضها مع بعض.  ماذا يجمع الصين باليابان، والهند بروسيا وغيرها من الدول النشطة جدا، كبيرة كانت أم صغيرة. التعلم من الشرق ضروري مع ترك الحرية بتطوير الاتصالات شرقا أم غربا تبعا للمصالح والظروف والحاجات.

ما هي أهم مشكلتين اقتصاديتين في لبنان اليوم؟ في رأينا النمو السلبي الذي ينتج فقرا ورغبة في الهجرة ويسيء الى الاستقرار الاجتماعي الذي يهم الجميع. المشكلة الثانية المرتبطة لكن معالجتها مكملة وربما مختلفة هي البطالة التي تهدد الأمن الاجتماعي وتؤثر سلبا على نوعية الحياة وعلى الأمل بالمستقبل. تحقيق النمو يتطلب قدوم الاستثمارات الينا في كل القطاعات وهذا متعثر اليوم بسبب القلق المصرفي ومشكلة النقد وغياب الثقة بمستقبل الدولة. المشاكل كبيرة دون شك والحلول غير متوافرة اليوم بسبب غياب القيادات السياسية الموثوقة كما بسبب اهتمام العالم بأمور كثيرة بعيدة عن لبنان. أما البطالة، فتتطلب المعالجة، أي الاهتمام بالعاطلين عن العمل وثانيا محاولة ايجاد عمل لمن يرغب علما أن الحاجات تبقى متوافرة في قطاعات عدة ربما لم تكن تعجب اللبناني سابقا لكنها بدأت تستهويه اليوم بسبب الحاجة ولأن لا عيب في العمل الشريف.

التعلم من الشرق كما تعلمنا من الغرب مهم جدا ومطلوب ويرتكز على العوامل التالية التي تعزز حسن الاستيعاب وتدفع الى التركيز الجدي لتحقيق الفعالية والانتاجية.

أولا: ما يميز لبنان هو السوق الداخلية الضيقة ليس فقط بسبب عدد السكان وانما بسبب القدرة الشرائية للفرد. هذا يعني أن لبنان بحاجة الى الأسواق الخارجية كي ينمو وبالتالي الى علاقات تجارية مع كل دول العالم اذا أمكن.  لا يمكن للبنان أن يكون فريقا متصلبا فيخسر نصف أسواق العالم. تطوير العلاقات مع الشرق مهم جدا في هذا الاطار، وهنالك دول عدة كانت تعاني ونجحت بتطوير علاقاتها الدولية كفيتنام.

ثانيا: لا يمكن للاقتصاد اللبناني أن يتطور وينمو من دون بنية تحتية متطورة وحديثة ومتجددة. نتكلم دائما عن الكهرباء الناقصة، لكن هنالك بنية تحتية أخرى لا تقل خطورة للأمن الاجتماعي كالمياه والاتصالات والمواصلات والنقل وغيرها.  العلاقات الدولية اللبنانية الجديدة يجب أن تنظر الى الدول التي يمكن أن تستثمر في البنية التحتية المطلوبة ولا يهم ان كانت شرقية أو غربية. هنالك دول شرقية عديدة كبيرة وصغيرة طورت البنية التحتية كسريلانكا وبانغلادش.

ثالثا: يحتاج لبنان الى أنظمة تجديد حديثة تبني على ما هو موجود. لأننا دولة صغيرة، لا بد من وجود نظام يعزز عمل الشركات الفردية وبالتالي يشجع على الخلق والتجدد. التكنولوجيا مهمة جدا ولا بد لنا من أن نتعلم مما فعلته الهند التي تعتبر رائدة في صناعة الحواسب والتكنولوجيا الرقمية وغيرها من العلوم المهمة. هنالك شركات رائدة عديدة في لبنان، لكننا نحتاج الى أكثر من ذلك لتحقيق النمو الذي نحلم به والذي تغيرت ركائزه في الألفية الثالثة.

رابعا: من الضروري تطوير فعالية الشركات الموجود الكبيرة والمتوسطة. هنا تكمن أهمية التواصل مع الجامعات لنقل العلوم الجديدة الى عمل الشركات. العلوم التقنية كما الانسانية والاجتماعية جميعها ضرورية ومهمة. التعلم من الشرق الياباني والصيني مهم وكبير ويفوق ما نحتاج اليه بأشواط. فلنكن منفتحين على هذا التعلم الذي تستفيد منه أيضا الدول الغربية منذ عقود. تطور الاقتصاد الغربي ليس فقط بفضل الداخل وانما أيضا بفضل التعاون مع الشرق في التعليم والبحوث والاستثمارات والعلاقات المباشرة الانسانية وغيرها.

خامسا: هنالك دور كبير للطبقات الوسطى التي هي العمود الفقري لأي اقتصاد.  هذا ما فقدناه في لبنان منذ حرب الـ75 ولم نستطع بعد اعادته الى قلب الاقتصاد.  لبنان ينقسم الى طبقتين اجتماعيتين أساسيتين طبقة قليلة غنية وأخرى كبيرة متعثرة والقليل بينهما. لم تنجح الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف في تنشيط الطبقة الوسطى التي بقيت خارج البلد او بقيت فقيرة في الداخل أو هاجرت وربما لن تعود خاصة تلك التي تركت حديثا. يمكننا أن نتعلم من دول الشرق حيث للعديد منها جاليات كبيرة غادرت وتعود لتبني في الداخل ومنهم الهنود والفلبينيين.

تحتوي دول شرق أسيا على خمس سكان العالم، أي الهند وجزر المالديف وسريلانكا وبنغلادش. تحتاج الى تحقيق نمو قوي لاستيعاب الزيادات السكانية الكبيرة، وبالتالي اليد العاملة المتزايدة. في الدول العربية، مصر تعاني من المشكلة نفسها اذ يتزايد عدد السكان مليون شخص في السنة فمن أين تأتي الدولة بفرص العمل مما يضطر السكان الى السفر الى الخارج للعمل أحيانا بشروط غير مناسبة لكن الخيارات الأخرى غير متوافرة. عملت الدول الآسيوية على الاستثمار في السكان وفي اليد العاملة لجعلها مناسبة أكثر لحاجات سوق العمل. عملت هذه الدول الآسيوية على تنويع اقتصاداتها مع استثمارات كبيرة ويد عاملة نشطة. في سنة 1972، كانت حصة الصادرات من الناتج 4% للهند وارتفعت الى 19% في سنة 2016. هذه «معجزة» اقتصادية، مما يشجعنا في لبنان على زيادة صادراتنا لتخفيف العجز التجاري وهجرة العملات الصعبة. في سريلانكا، ارتفعت الصادرات من الناتج من 8% في سنة 1972 الى 22% في سنة 2016. لم ترتفع القيمة فقط لكن السلة تغيرت مما يشير الى تجاوب الانتاج الداخلي مع الطلب الخارجي المتغير. يستطيع لبنان تطوير صادراته بسهولة في قطاعات الغذاء والنسيج والمجوهرات وغيرها.

ماذا فعلت هذه الدول الشرقية كي تطور اقتصادها وترفع صادراتها وتحسن مستوى معيشتها؟ رفعت انتاجية القطاع الزراعي اذ غيرت السلع وأحسنت استعمال التقنيات والأدوية كما الأسمدة. رفعت نوعية الخدمات كذلك في الصناعة. استثمرت في الانسان وفي العامل مما ساهم في رفع الانتاجية التي هي أساس كل تطور اقتصادي. لا لزوم للتأكيد على أهمية محاربة الفساد والهدر عبر المحاسبة والشفافية. عدم القيام بالاصلاحات المعروفة يؤدي الى تذمر اللبناني من سوء الخدمات والى ارتفاع البطالة أي الى الفقر. لا خيار لنا الا تنفيذ الاصلاحات فهذا أكثر من ضروري، واذا استطاعت الهند وسريلانكا وبنغلادش القيام بها فلماذا لا نستطيع نحن ذلك؟

أما فيتنام التي دمرتها الحروب الكبيرة على أرضها، فها هي تنمو وتصبح دولة رائدة عالميا تتسابق الدول الغربية على الاستثمار داخلها بما فيها الولايات المتحدة التي خسرت حربا كبيرة ضدها في سنة 1975. يتطور الاقتصاد بقوة منذ سنة 2005 وهنالك تحول واضح منذ 1986 نحو الاقتصاد الحر لجذب الاستثمارات وإحداث النمو. من دولة فقيرة جدا في الثمانينيات الى دولة متوسطة الدخل اليوم تدهش العالم بسرعة التنفيذ وحسن الاختيار خاصة عبر التركيز على التعليم للجميع. 100% كهرباء وتنوع اقتصادي مدهش حيث انحدرت حصة الزراعة من الناتج من 40% في الثمانينيات الى 15% اليوم.  النمو السنوي في حدود 7% مع ميزان تجاري فائض واحتياطي نقدي متزايد في حدود 80 مليار دولار. سكان فيتنام من عرقيات وأجناس وأصول مختلفة لكن الدولة تنعم بقيادات وطنية بمستوى وأداء عال. اقتصاد ينجح، فلماذا لا ننجح نحن؟