بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 تموز 2021 12:02ص التعليم نور لبنان

حجم الخط
التعليم عالميا مصاب بسبب الكورونا وبسبب اضطرار المؤسسات الى الاقفال القسري، وبالتالي اعتماد التعليم عن بعد. هنالك تجارب جديدة يتم اعتمادها كالتعليم المدمج أو تقسيم الأسبوع الى مجموعات تعليمية منعا للعدوى الكورونية أو غيرها لتخفيف الخسائر على الأجيال الحالية المتضررة. لكن ما جرى ويجري في لبنان بشأن الامتحانات الرسمية مقلق ويفوق الأضرار التي لحقت بالدول الأخرى أي الدول التي نعتمدها كنموذج أو مثال للنظام التعليمي الجيد. الضرر الحاصل في لبنان كبير ليس فقط للطلاب والأهل، وانما لمستقبل لبنان كاقتصاد ومجتمع.

ضرب الشهادات الرسمية هو ضرب للواقع والمستقبل خاصة وأن ميزة لبنان هي مستوى التعليم. ما يجري في لبنان اليوم يمكن أن يغيّر وجه لبنان أكثر بكثير من الأمور السياسية التي نتجادل بشأنها ليل نهار. مدارس لبنان وجامعاته كانتا النور الذي بنى عليه لبنان مما أعطاه الدور الكبير المميز في المنطقة وعالميا. تلغى شهادات رسمية لأسباب غير مقنعة وتدل على عدم التزام بدور البلد التاريخي المميز. هذا يقلقنا ليس فقط كلبنانيين وانما كمواطنين وأهل عاشوا دور لبنان السابق في المنطقة. عندما تلغى شهادات أو يقال قبلا للطلاب أن لا يقلقوا لأن الأسئلة لن تكون صعبة، هذا يضرب كل التعليم خاصة وان اعادة الجدية الى أي نظام تعليمي يأخذ الوقت الكثير في غياب أي نية ظاهرة ومقنعة.

الغاء الامتحانات الرسمية ربما يسعد الطلاب وبعض الأهل والأجهزة التعليمية والرقابية، لكنه بالتأكيد يضر بهم وبالبلد على المدى المتوسط والبعيد وبالتالي سيكون الثمن باهظا جدا. تكلفة ما حصل بحجة الأوضاع والتعريفات والبنزين والجو العام ستكون كبيرة وتظهر أكثر بوضوح مع الوقت.

التعليم هو النور وغياب النوعية هي الظلمة بحد ذاتها. الاستثمار في التعليم يضيف الى ثروة الدولة والشعب أكثر من أي استثمار آخر، وهذا ما تظهره كل الدراسات العالمية. يقول الاقتصادي «جو ستيغليتز» إن التعليم ينقل المجتمعات من مستويات الى أخرى أهم وأفضل في كل أقسام الآداب والعلوم. كوريا الجنوبية مثلا تحولت من مجتمع يعتمد على انتاج الرز الى آخر متفوق في التكنولوجيا والعلوم يعطي أفضل السلع ويقدم أجود الخدمات المالية والصحية وغيرها. التعليم الجدي والجيد يعطي الكثير وخاصة يسبب ارتفاع الانتاجية العامة التي تخلق النمو وتعزز التنمية وتحارب الفقر.

يساهم التعليم في خلق مجتمعات ترغب في تطوير نفسها أي «مجتمعات تعليمية» وهذا ما نبتعد عنه اليوم في لبنان. بناء هذه المجتمعات التعليمة صعب جدا، وقد نجحنا به في لبنان في العقود الماضية ومن الخطأ أن ندمره بسبب أمور تافهة أهمها الكسل وسوء المسؤولية والغباء الفكري الذي ينتشر في أقسام مهمة من مجتمعنا وفي الادارة الرسمية اللبنانية. يجب أن نعي أن التعليم هي عملية متواصلة لا تقف بل تجدد نفسها، وهذه هي الصعوبة التي نواجهها. اعادة أجواء الجدية الى مدارسنا وجامعاتنا والمؤسسات التعليمية خاصة ليس بالأمر السهل ولا نشعر حقيقة أن الاهتمام بالموضوع بمستوى التحديات والمخاطر.

ما هي خصائص جودة التعليم في لبنان التي ميّزته لعقود طويلة مضت عن عدد كبير من دول المنطقة والعالم؟

أولا: نوعية اليد العاملة اللبنانية التي نتجت عن جودة التعليم المدرسي العادي والمهني، في العام والخاص بالاضافة الى الجامعي. لبنان استضاف خاصة حتى سنة 1975 أفضل طلاب العرب والمنطقة الذين قادوا دولهم على مدى سنوات. التعليم اللبناني كان نورا لنا وللمنطقة، وكنا مضرب مثل للمجتمعات الناجحة. أين نحن اليوم مما سبق؟

تفوقت اليد العاملة اللبنانية ليس فقط بالآداب والعلوم وانما خاصة باللغات مما سمح لها بالانفتاح على الخارج والعمل فيه بنجاح. هذه النوعية العالية أصبحت قليلة بل نادرة اليوم للأسف واذا وجدت تغادر بسبب المال والمعاملة كما بسبب الظروف الحالية والمستقبلية. ما الذي سبب الازدهار الاقتصادي والاجتماعي ليس فقط في الغرب وانما خاصة في الدول الآسيوية كسنغافورة وتايوان الصينية وكوريا وماليزيا؟ ليس المال وانما التعليم حتما، وها نحن نسيء الى تعليمنا في لبنان أي الى هذه الثروة الكبيرة بسبب عدم الجدية أولا وعدم الالتزام ثانيا. التحدي يفرض علينا أن نضاعف جميعنا الجهود كي تجري الامتحانات اليوم وغدا كلها بالمستويات المطلوبة. التحضير واجب من قبل الجميع لتحسين الأجواء وتنقيتها. ينجح من ينجح ويسقط من يسقط في امتحانات جدية تسمح بتقييم جهود الطالب.

ثانيا:  من الضروري أن نفهم أن أهمية التعليم تتعدى الفوائد المباشرة على الطلاب لتصل الى تحقيق الاستقرار في مجتمعات تعتمد الديموقراطية في العلاقات بين المواطنين وبينهم والحكام. التعليم يبني الانسان المنفتح الواعي الذي يحمي الديموقراطية ويطورها. التعليم هو ركيزة المجتمعات الحديثة ومن أهم الأسلحة لمحاربة الفقر ونشر التنمية. ضرب التعليم يضرب الديموقراطية الحالية والمستقبلية التي تعتمد على وجود مواطنين متعلمين واعين مدركين لوجود التعليم وامتداده على كل طبقات المجتمع. يساهم التعليم في ضرب الفساد اذ يفهم المواطن المتعلم مساوئ الفساد ويسعى لضربه بكل قواه. الرغبة في الفساد موجودة في الدول الصناعية كما النامية، الا أن الفارق يكون في المؤسسات القادرة على محاربته في الدول الصناعية والعاجزة عنه في الدول النامية. المجتمع المتعلم هو الذي يبني المؤسسات الفاعلة من قضائية وسياسية وادارية واعلامية والتي تنتج اقتصادا متطورا.

ثالثا: التعليم عن بعد أو المدمج هو مرحلي بسبب الأوضاع الصحية العالمية.  لا شيء يعادل التعليم العادي اذ أن العلاقات المباشرة بين الطلاب كما بين الطلاب والأساتذة وبين الطلاب والاداريين هو في غاية الأهمية ويجب أن نعود اليه عندما تسمح الظروف به. العلاقات الانسانية المباشرة وبناء العلاقات الشخصية هي بأهمية الدروس الأكادمية وهي تبني علاقات المستقبل الانسانية والاجتماعية كما الشبكات المهنية.

رابعا: نحتاج في لبنان الى سياسات تعزز التعليم وترفع المستوى في العام كما الخاص وفي التعليم المهني. كم نتذمر عندما لا نجد المهني الجيد؟ لن تكون قطاعاتنا الاقتصادية والاجتماعية فاعلة من دون تعليم عصري ومتطور.

أخيراً علينا أن نختار في لبنان بين مجتمع يحترم المؤسسات ويخفف الفوارق المادية بين المواطنين أي بناء الحلقة الفاضلة، أو بين مجتمع يضرب المؤسسات كما يحصل الآن وبالتالي يكبر الفوارق بين المواطنين أي بناء الحلقة المفرغة. لبنان عند مفترق طرق واضح والخيارات ظاهرة والقلق يكمن في اننا اعتدنا على اختيار الحلول السيئة والسهلة والشعبوية والمضرة خاصة على المدى البعيد.