بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 كانون الأول 2022 12:33ص المصارف والسياسة النقدية

حجم الخط
يُعاني لبنان من العديد من المشاكل، وقد تأخرنا كثيرا عن ركوب قطار التطور العالمي وحتى الأقليمي. من مشاكلنا الأساسية أوضاع القطاع المصرفي الذي كان سقوطه مدويا أمام رقابة الداخل والخارج. الأسباب متعددة ولا تقتصر على المصارف نفسها، وانما تصل الى سياسات مصرف لبنان كما السياسات العامة التي قررتها الحكومات المتعاقبة منذ 1990. اقراض الحكومات لتمويل حاجات عامة غير مدروسة في العديد من الأحيان، كما اقراض بعض القطاع الخاص الذي لم يسدد ديونه وضعا القطاع المصرفي في صعوبات هائلة نتج عنها عدم القدرة على رد الودائع لأصحابها.
وقعت المشكلة والخسائر كبيرة والمهم أن يذنب فقط من كان مسؤولا عن السقوط، أي المصارف نفسها ومصرف لبنان والقطاع العام ممثلا بوزارة المال. المودع غير مذنب اذ وضع امواله في المصارف بسبب الثقة ولم يكن له أي دور في أي من القرارات الخاطئة أو المتهورة التي اتخذت. المودع بريء ويجب أن تعاد كل الأموال الى أصحابها.
هنالك العديد من القوانين التي تصاغ اليوم والتي تعتبر اما اصلاحية واما للتجاوب عن حق أو باطل مع صندوق النقد الدولي وصولا الى توقيع اتفاق معه يؤمن لنا بعض القروض ويفتح الأبواب أمام أموال أخرى تأتي من الدول الشقيقة والصديقة. مع هذه القوانين، المهم جدا أن تبقى «استقلالية المصرف المركزي» مصانة ومحترمة اذ أي بديل يسيء الى لبنان على المدى الطويل. هنالك دول عدة حاولت وضع المصرف المركزي ضمن وزارة المالية وفشلت. نقول هذا لأننا تعودنا في الماضي أن نضع قوانين جديدة «اصلاحية» أسواء من القديمة التي تم استبدالها. اقرار قوانين جديدة اليوم ضروري لكنه خطر في نفس الوقت لأنه يمكن أن يضعنا على سكة تهور توصلنا الى الأسفل.
هنالك خوف دائم في لبنان من أن وضع أي قوانين سيخرجنا من مظلة «قانون النقد والتسليف» الذي كان له الفضل في انعاش اقتصاد لبنان حتى سنة 1975. أتت رؤوس الأموال الينا وكان لبنان مضرب مثل للاقتصاد الناجح الذي أدهش المنطقة ولقب بسويسرا الشرق. الظروق تغيرت اليوم كثيرا منذ الحرب حيث تعممت الفوضى في كل أنحاء الدولة. أتى اتفاق الطائف للم شمل مؤسسات الدولة في ظل دستور لم يطبق كما يجب، ونتج عنه خلل كبير في اتخاذ القرارات ضمن بعض المهل غير الواقعية وغيرها من الشوائب.
مشكلة لبنان اليوم أن عملية اتخاذ القرارات معقدة في وقت مطلوب خلاله وضع قرارات سريعة تنفذ لمصلحة كل اللبنانيين. هنالك قواعد وأعراف معتمدة تقيد الحركة وتعطل الدولة وتجعل البلد مشلولا، وهذا ما يحصل دوريا مع الشغور وغيره وعدم القدرة على تشكيل حكومات الا بعد جهد جهيد وتدخلات خارجية قبل النفس الأخير. المدهش هو كيف لنا القدرة كمجتمع على التحمل الدوري وليس الاستثنائي لكل هذا الخلل المعطل والمكلف والمضر.
من المهم أن تكون القوانين الجديدة مؤقتة أي تعالج أوضاع استثنائية وأمراض آنية. قانون السرية المصرفية مهم شرط أن لا يقتلها لأننا مجددا استفدنا من السرية في الماضي وهي لبست السبب في المأزق الذي نحن فيه. قانون القيود على رؤوس الأموال والذي يجب أن يقيد خروج الأموال من لبنان لفترة مؤقتة، وليس أن يقيد المواطن في مصروفه وسحبه لأمواله. تعاميم مصرف لبنان مرتبطة بسحب المواطن لأمواله من المصارف وهي بمعظمها كميات قليلة تسمح له بالعيش الكريم، ولن يهربها الى الخارج لأنه يحتاج اليها في الداخل. وضع قيود على خروج الأموال لا علاقة له بالتعاميم التي تسمح بسحب أموال من الحسابات. كنا نتوقع أن يبدأ اعتماد سعر ال 15 ألف ليرة للدولار في سحب الودائع قبل أعياد آخر السنة للسماح للمودع بانعاش ميزانيته والشعور ببعض الفرح الذي غاب عنا.
مهمة المصرف المركزي هو وضع السياسة النقدية المستقلة التي تهدف أولا الى محاربة التضخم وبالتالي الحفاظ على قيمة النقد الوطني في الداخل وعبر أسعار الصرف. ربط الليرة بالدولار منذ التسعينات سمح لنا بالسيطرة على التضخم بعد ما كان لنا احتياطي نقدي كبير وكان في الداخل والخارج بعض الثقة بكيفية ادارتنا لبلدنا. أما اليوم فالوضع تغير، والاحتياطي النقدي غير كاف للاطمئنان، كما أن الثقة ضعيفة جدا بدأ من الداخل الى الخارج. فهل تبقى السياسة النقدية كما هي في ظروف متغيرة متبدلة لا أفق لنهايتها قريبا؟ في اعتقادنا يجب على السياسة النقدية أن تسير في الاتجاهات التالية مجتمعة:
أولا: التخلي عن ربط الليرة بالدولار بسعر رسمي، واعتماد سعر السوق الحرة كسعر واحد لليرة تجاه الدولار كما يحصل في معظم دول العالم. مهزلة اعتماد أو تطبيق أسعار صرف متعددة تسيء الينا كمجتمع وتضر باقتصادنا وتوتر أسواقنا.
ثانيا: بعد تصحيح الأوضاع المصرفية والقيام بالاصلاحات المطلوبة عبر الدمج مع احترام المنافسة، يجب أن تكون رقابة مصرف لبنان على المصارف صارمة وعادلة ومهنية لأن من غير المقبول ما حصل ولا بد من التعلم من تجربة اليوم السلبية.
ثالثا: لا بد للمصرف المركزي من أن يرافق التجدد المعتمد اليوم عالميا أي ادخال النقد الرقمي والمشفر المحلي لمن يرغب في التوظيف فيه. يجب على مصرفنا وضع تعاميم السلامة التي تسمح للمواطن في الداخل في أن يستثمر بشفافية في هذه العملات. وضع شروط آمان مهم جدا تجنبا لما حدث في الخارج مؤخرا من مصائب بسبب الجشع والمغامرة كما الفساد.
رابعا: أسواقنا المالية ما زالت بدائية ولم تعط لها فرصا كافية. لا نريد أن ننسخ تجارب نيويورك ولندن، فتجارب بعض الدول العربية الناجحة تكفينا للتعلم منها واعتماد الأفضل لنا ولأسواقنا.