21 أيار 2021 06:50ص المصرف المركزي والنقد

حجم الخط
تحرك المصارف المركزية الفوائد صعودا لمحاربة التضخم أي لجعل تكلفة الاقتراض أعلى.  تحركها انخفاضا لتنشيط الاقتصاد ومحاربة الركود وبالتالي تسهل الاقتراض للاستثمار.  تعمل المصارف المركزية مع المصارف التجارية التي تتعاطى بدورها مع المواطنين والشركات.  منذ أزمة 2008، تلعب المصارف المركزية دورا كبيرا يفوق ما مارسته منذ الحرب العالمية الثانية.  ما هو دورها التقليدي؟  مكافحة التضخم كما علمنا «ميلتون فريدمان» منذ عقود وبالتالي عليها ضبط زيادة الكتلة النقدية حتى لا يزيد الضغط على السلع والخدمات فترتفع أسعارها وبالتالي مؤشر التضخم.
كيف يصل المركزي الى هدفه؟  هنالك وسيلتان أساسيتان أي حجم الكتلة النقدية أو طبع النقد وثانيا تحريك الفوائد تبعا للمصلحة الوطنية.  دور السياسة النقدية التقليدي هو ابقاء مؤشر التضخم ضمن هامش متفق عليه سابقا أي ما دون 2 أو 3% عموما.  هذا سليم وصحي وطبيعي لأن التضخم هو كالرئة.  فالانسان بحاجة للتنفس كما الاقتصاد بحاجة الى القليل من التضخم.
مع الممارسة تغير بعض الأهداف كما بعض الوسائل بسبب الحاجة كما بسبب التفنن وتقدم العلوم والأوضاع.  في لبنان مثلا، هدفت السياسة النقدية منذ التسعينات الى الحفاظ على سعر صرف الليرة تجاه الدولار الأميركي أي عمليا استورد لبنان السياسة النقدية الأميركية المكافحة للتقدم.  هدفت السياسة النقدية اللبنانية الى بيع أو شراء الدولار في السوق للحفاظ على سعر 1500 ليرة للدولار.  وجود دولار في السوق اللبنانية أساسي للسيطرة على تقلبات سعر الصرف.
هنا تكمن الأزمة اليوم اذ أن الدولار نادر في لبنان بسبب العديد من السياسات المكلفة والمزمنة وفي مقدمها العجز الكبير للميزان التجاري.  عندما يعود ضخ الدولارات الى لبنان ستتغير الأوضاع النقدية، ولكن هذا لن يتم قبل عودة الثقة الداخلية والخارجية في النظام النقدي والمصرفي.  المنصة الالكترونية الجديدة لن تعطي النتيجة المنتظرة لغياب العرض الجديد للدولار.  الاحتياطي الالزامي لا يصلح للعرض لأنه ملك المواطن وبالتالي لا يمكن الاستمرار في الاساءة اليه.  حكما الأزمات الداخلية المعروفة والخارجية المستجدة تضر بلبنان في حاضره ومستقبله.
هنالك سياسات نقدية لها أهداف مختلفة كمؤشر محدد للتضخم.  تختلف هذه المؤشرات من الاستهلاك الى الانتاج والى العام وتعطي أرقاما متباينة.  لذا وجود احصائيات دورية ودقيقة أساسي كي تكون السياسة النقدية فاعلة ومؤثرة.  أفضل السياسات تبقى السعر الحر الذي تعتمده الدول الأساسية بدأ من الولايات المتحدة الى مجموعة أوروبا وبريطانيا واليابان وغيرها.  يتحرك سعر الصرف تبعا للعرض والطلب ويستوعب تغيرات الاقتصاد العام.
هنالك دول ناشئة ونامية عديدة خاضت تجارب السياسة النقدية الحرة منها فشل وآخرى نجح.  هنالك مبدأ مهم يجب الحفاظ عليه وهو «استقلالية السياسة النقدية» أي تقرر من قبل المصرف المركزي وليس من قبل الحكومة وذلك لابعادها عن التجاذبات السياسية.  الاستقلالية لا تعني أبدا عدم التنسيق مع الحكومة أو السياسة المالية، بل أن القراران مستقلان لأن الأهداف والوسائل والنتائج تقيم بأشكال ومعايير مختلفة.  التنسيق واجب وللمصلحة العامة.
في الممارسة لم تكتف السياسة النقدية بمكافحة التضخم خاصة في زمن الأزمات كما حصل في 2008\2009 وكما يحصل اليوم مع الكورونا.  ما تقوم به السياسة النقدية هو ضخ السيولة في الأسواق لتوفير النقد لقطاع الأعمال كي يستثمر وينفق.  في هذه الصفة، تصبح السياسة النقدية مكملة أو مشابهة للسياسة المالية أي تصرف النظر عن مؤشر الأسعار وتضع نصب أعينها النمو.  هذا ما حصل في 2008 وما يحصل اليوم مع المصرفين المركزيين الأساسيين أي الأميركي والأوروبي لتحفيز النمو وعدم الغرق في البطالة والفقر والبؤس.
يقوم المصرف المركزي بشراء السندات أو بيعها في الأسواق الثانوية لتخفيف أو زيادة الكتلة النقدية.  هكذا أصبح مركز حاكم المصرف المركزي مهم جدا كوزير المالية، لكنه حر أكثر بكثير اذ لا يخضع لقرارات السلطة التنفيذية أو حتى السلطة التشريعية أو غيرها.  هنالك حصانة وظيفية كبيرة تقدم لحكام المصارف المركزية أي عدم العزل من المنصب الا في حال مخالفة القوانين أو سؤ الاداء.
في المنطقة العربية، معظم المصارف المركزية لا يتمتع بالاستقلالية أي تبقى تحت سيطرة الحكومة.  هذا يضعف دورها ويقلل من شأنها الاقتصادي والوطني.  حتى في بعض الدول الغربية كبريطانيا، لم تعط الاستقلالية الا حديثا لأن السياسيين يخافون منها.  يمكننا أن نتعلم الكثير من التجربة الأميركية اللاتينية:
أولا:  توسعت جدا عمليات المصارف المركزية المستقلة.  استطاعت أن تحقق تضخما معتدلا ساهم في تحفيز النمو.  التجربة العملية الرائدة حصلت في 2008 حيث كانت الاقتصادات الصناعية تغرق بينما الأميركية اللاتينية تعمل بهدؤ.  انخراط الاقتصاد الأميركي الجنوبي في الاقتصاد العالمي جعله يستفيد من حركات السلع والخدمات كما من حركات رؤوس الأموال ضمن ضوابط وضعتها لنفسها.  في 2007، نما الاقتصاد الأميركي اللاتيني 5,4% وثم 4,4% في السنة التالية.  حصل نمو سلبي في 2009 أي 2% لكن النمو الايجابي عاد مع 3,5% في 2010.
ثانيا:  في مجموعة دول أميركا الجنوبية هنالك دولتان أساسيتان هما البرازيل (نصف الاقتصاد العام) والمكسيك (الربع).  المجموعة المتبقية تعتمد كثيرا على تصدير المواد الأولية وبالتالي أقل تأثيرا.  باستثناء البرازيل، الدول الأميركية اللاتينية تتكلم الاسبانية ولها تاريخ مشترك أي أن التجانس قوي.  طبعا البرازيل تتكلم البرتغالية ولها عادات مختلفة انما هنالك أيضا بعض أوجه التشابه.  اذا ميزنا بين الدول في 2010 أي مباشرة بعد الأزمة، نرى أن البرازيل نمت 4,8% والمكسيك 2,3% وبالتالي استطاعت الاقلاع بسرعة.  تختلف النسب للدول الأخرى تبعا لأسعار المواد الأولية التي تصدرها.  هنالك عامل سلبي مشترك بين الدول وهو توسع فجوة الثروة والدخل الى حدود خطرة تسبب معها مشاكل اجتماعية جديدة وجدية.  هنالك أيضا عوامل مشتركة هي ضعف الادخار والرغبة الدائمة في تأجيل القرارات الصعبة كما عدم استمرار النتائج الجيدة.
ثالثا:  هنالك تفكير عميق عالمي بمستقبل السياسة النقدية لأن الأزمات تستمر وتتغير في أشكالها علما أن السياسات الفاعلة ليست عديدة.  هل يجب أن تكون السياسة النقدية هجومية أي تستبق الأحداث ولا تنتظر المشكلة لتعالجها؟  هل تحتاج المصارف المركزية لأدوات جديدة فاعلة تساعدها في تحقيق الأهداف، علما أن بعض الأدوات في فترة 2008 كانت شديدة الخطورة؟  كيف يمكن أن يتم التنسيق مع السياسات الأخرى وما هي صلة الوصل الدستورية أو المؤسساتية؟  الفترة التي نعيش خلالها هي فترة تعلم وترقب أكثر منها تنفيذ وتقييم اداء.
الدكتور لويس حبيقة