بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 كانون الأول 2022 12:22ص المصرف المركزي وراء الأزمات؟

حجم الخط
لا تقع أزمة مالية في أي دولة ولا يكون المصرف المركزي ورأها أي مهملا أو مسببا أو عاجزا ومقصرا. المصرف المركزي هو مؤسسة رسمية عامة تقع في قلب النظام المالي والنقدي لدولة أو مجموعة دول تعتمد نفس النقد كالمصرف الأوروبي. للمصرف المركزي ثلاثة أهداف متعارف عليها دوليا وهي أولا تأمين الاستقرار الاقتصادي عبر تحريك الفوائد كما يحصل اليوم لمحاربة التضخم. هدفه الثاني تأمين السيولة في الأسواق خاصة عبر الاقراض القصير الأجل عند الحاجة وثالثا وضع القواعد والاجراءات والأنظمة التي تجنب الوقوع في الأزمات بالاضافة الى الرقابة الدورية المدروسة. أول المصارف المركزية تأسس في السويد سنة 1668 وثم في بريطانيا سنة 1694 وبعدها في فرنسا سنة 1800. أما المصرف المركزي الأميركي فلم يتأسس الا في سنة 1914.
تقع الأزمات المالية نتيجة تصرفات أو قرارات خاطئة من قبل السلطات المالية والنقدية التي تسبب فقدان الثقة بها من قبل الرأي العام كما المجتمع الدولي. عندما يفقد المواطن الثقة في المصارف يسارع الى سحب أمواله، وعندما يفعل الجميع ذلك تقع الافلاسات الحتمية. في ظروف أزمات عادية المطلوب من المصارف المركزية تسهيل عمليات اقراض الأسواق حتى لا يسقط الاقتصاد كما حصل في الولايات المتحدة بدءا من 1929 مرورا بالثلاثينات حيث لم يقم المصرف المركزي بدوره الطبيعي في ضخ النقد. على العكس رفع المصرف الفوائد لجذب رؤوس الأموال الى الاقتصاد الأميركي وبالتالي رفع أسعار الأصول.
سقطت المصارف بسبب عدم تأمين السيولة اللازمة، وكانت هنالك حوالي 10 آلاف عملية افلاس خلال الثلاثينات. في سنة 1933، خرجت الولايات المتحدة من النظام النقدي العالمي المرتكز على الذهب، وبالتالي تحررت السياسة النقدية من القيود وتحسن الاقتصاد في السنة التي تلت. تأسست وكالة ضمان الودائع في سنة 1934 وعندها اطمأن المودعون العاديون الى سلامة أموالهم.
تمويل الافلاسات المصرفية كان يأتي عموما من الموازنات، وبالتالي كان أصحاب المصارف يخاطرون، لعلمهم أن الانقاذ سيأتي من الدولة وبالتالي لا خوف على ودائع المواطنين. تغيرت القواعد العامة وأصبحت مسؤولية المصارف وأصحابها تغطية الخسائر، وبالتالي خفت عمليات السقوط والافلاس وكانت هنالك نقلة نوعية في ادارة المصارف. الخطر التضخمي لم يأت الا لاحقا أي في بداية الخمسينات عندما شعر المصرف المركزي الأميركي بضرورة التنبه لهذا السارق الليلي الذي يسمى التضخم. لم تكن المصارف المركزي جاهلة لخطورة السارق انما كان لها هدف آخر حاولت الوصول اليه بعد الحروب المتعددة التي حصلت بدءا من الحرب العالمية الثانية الى حربي فيتنام وكوريا وغيرهما، والتي فرضت على المؤسسة النقدية الأساسية الحفاظ على الاستقرار لكن على حساب البطالة.
كانت نظريات «ميلتون فريدمان» الركيزة الأساسية التي بنيت عليها السياسات النقدية. لذا وجب التنبه لنمو الكتلة النقدية منعا لحصول التضخم الذي لا يمكن معالجته الا عبر رفع الفوائد. هذا ما يحصل اليوم أي سباق على رفع الفوائد القصيرة الأجل من قبل المصارف المركزية الأساسية تجنبا للأسواء على حساب البطالة والنمو وخطورة الوقوع في ركود قاس يصعب محاربته. لم تكن السياسة النقدية وحدها التي سببت التضخم القوي بدأ من الخمسينات بل كانت السياسات المالية مسؤولة أيضا وهي التي هدفت الى تمويل الحروب والبرامج الوطنية من ضمانات ومشاريع بنية تحتية وغيرها.
بدأ التضخم الجدي في الخمسينات، لكن الذروة بلغت خلال الثمانينات مما اضطر المصرف المركزي الأميركي الى رفع الفوائد تماما كما يحصل اليوم. نجحت وقتها تلك السياسات مما سبب سقوط مؤشر التضخم من 13% الى 3%. فهل تنجح المصارف المركزية اليوم علما أن خطر التضخم الحالي ليس أقل وبالتالي رفع الفوائد الحذر لا بد وأن يعطي النتيجة المطلوبة؟ لا شك أن البطالة كما النمو تأثرا سلبا بسياسات الثمانينات وسيتأثران كذلك اليوم.
من الأخطاء الأساسية التي حصلت خلال تطبيق السياسات المحاربة للتضخم هي:
أولا: رفع الفوائد كان مفيدا لأكثرية القطاعات أهمها العقارات، لكن ليس للجميع كالصناعة التي تعتمد على الاقتراض. يجب مقاربة أوضاع القطاعات بشكل متواز. ما حصل كان تصرف منحاز من قبل واضعي السياسات وان يكن تفسيره واضح.
ثانيا: عدم القيام بالرقابة الجدية المسبقة لمنع حصول الأزمات كان خطاء كبيرا خاصة في فترات النهوض والازدهار حيث يستفيد الجميع من الأرباح وتخف الرقابة الدقيقة الوقائية.
ثالثا: الضبابية أو السرية المعتمدة في سياسات وأعمال المصارف المركزية ترتكز على التهرب من المحاسبة، اذ لا يتم شرح الواقع دوريا بدقة وشفافية بل تبقى المعلومات قليلة ومجزأة. هذا يمنع على المواطنين والشركات تكوين توقعات صحيحة بشأن المستقبل. الضبابية تؤذي الاستثمارات وتمنع على المواطن التصرف بذكاء وانتباه.
رابعا: هنالك مقولة منتشرة في الأسواق المالية وهي أن المصارف الكبيرة لا تسقط وهنالك دائما من ينقذها. هذا خطأ شائع والحقيقة أن المصارف الكبيرة تسقط وان اداراتها ليست دائما أفضل من المتوسطة والصغيرة، وبالتالي سلامة الادارة وليس الحجم هي الأساس. الرقابة الدورية والجدية ضرورية خاصة في زمن النهوض حيث تبنى الركائز المالية والادارية للمؤسسات.
خامسا: أزمات الدول الصغيرة ربما لا تؤذي الاقتصاد الدولي لكنها حتما تصيب المواطن العادي في حياته ومعيشته. ما يحصل مثلا في لبنان وسريلانكا وغيرهما موجع ومقلق للمواطن، ولن يتأذى عمليا الا المواطن نفسه. يبقى الاهمال أساس الأزمات والمحاسبة تبقى ضرورية للحاضر وخاصة للمستقبل.
سادسا: أي نظام مصرفي ومالي لا يسهل اقراض الشركات الناشئة كما الصغيرة والمتوسطة لا يبني للمستقبل. ان انقاذ أي اقتصاد لا يمكن أن يتم عبر السياسات النقدية وحدها، وبالتالي تحميل كل المسؤولية للمؤسسات النقدية ظالم ولا يعبر عن الحقيقة.