بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 تموز 2020 07:14ص النمو وثم الأزمات

حجم الخط
تحاول كل الدول تحقيق نمو اقتصادي قوي ومتواصل.  القليل منها ينجح لأن النمو يتطلب وجود مناخ عام مناسب وقطاع خاص حيوي يستثمر في الاقتصاد.  لكن النمو القوي يحمل في نفس الوقت في طياته بذور الأزمات التي تضرّ به.  النجاح يسبب عموما الغرور كما الثقة المتزايدة بالنفس، وبالتالي ترتفع فرص الفشل الكبير.  كلما كان النمو قوياً، كلما كانت الأزمات اللاحقة أكبر وأعمق وأطول.  في الماضي حصلت أزمات عالمية كبيرة كل عشر سنوات، ومن الممكن أن يتكرر ذلك قريبا حيث أن الأزمة الأخيرة الكبرى حصلت في 2008\2009.  ما سبق أزمة 2008 كان النمو القوي الذي ترافق مع ارتفاع فجوة الثروة والدخل التي عمقت الغضب الشعبي.  لم يقتصر هذا الواقع على الدول الصناعية، بل حصل أيضا في الدول الناشئة والنامية.  حصة الأجور من الدخل الوطني انخفضت مع النمو، حصة أرباح الشركات ارتفعت كما حصة الأغنياء الكبار ارتفعت كثيرا وبالتالي حصل الشرخ الاجتماعي الخطير.  اتكلت الدول الناشئة على الصادرات، فحركت سعر الصرف كي تصدر أكثر ونجحت.  لكن النجاح لم يدم طويلا، اذ أن التكلفة الاجتماعية المتزايدة للسياسات النقدية فاقت كل الأرباح المالية ووقعت الأزمة.

المشكلة الصحية التي تضرب العالم اليوم ربما أخرت الأزمة المالية\ الاقتصادية المتوقعة. الأزمة «الكورونية» ضربت الانسان ليس فقط في جيبه وإنما خاصة في صحته وعمره المرتقب وانتاجيته وبالتالي في مستقبله. أزمات اليوم أعمق من الماضي لأنها ليست فقط مادية بل هي نفسية وعقلية أيضا. الانسان العالمي محبط هذه الأيام بسبب التشاؤم والقلق الموروث ليس فقط من الكورونا وانما أيضا من سوء الاداء السياسي العام.  تصرفات الرئيسين الأميركي والبرازيلي على سبيل المثال بشأن الكورونا مقلقة حيث عملياً ينكران حصول الفيروس.  المعالجات في بعض الدول مقلقة في الألفية الثالثة حيث تتحدى كل التقدم في الطب والعلوم والممارسات العلمية.  فعلا الجهل يتفوق على العلم وهذا في غاية الخطورة.

الأوضاع اليوم خطيرة ليس فقط بسبب الكورونا وإنما أيضا بسبب التطرف الذي نشهده دولياً حتى من قبل القادة الكبار.  الشعور العرقي والجنسي قوي وصولا الى الشذوذ في بعض الأحيان.  يؤثر هذا التصرف على الصحة والتعليم كما يمس الأخلاق نظرياً وممارسة في كل الدول. إزالة كل التماثيل والشعائر الماضية تحاول الغاء التاريخ أو نسيانه، لكن في نفس الوقت تعطي دروساً للمستقبل أي في ضرورة حسن التصرف. العلاقة بين المواطن والمسؤولين أصبحت مختلفة كلياً عن الماضي، أي أن المواطن يحاسب اليوم في السر أو العلن وبالتالي على المسؤول التنبه لمشاعر المواطن.  فالمحاسبة يمكن أن تأتي حتى بعد الموت.

النمو يحمل في طياته بذور الأزمات، لذا ما هي شروط النمو القوي ولماذا تكون هنالك أزمات؟  هل بسبب السياسات السيئة أم بسبب سوء التطبيق والتصرف أو لأسباب أخرى؟

أولاً:الاستقرار الاقتصادي العام ضروري كي يحصل نمو.  في لبنان اليوم نعرف علناً ما هو الاستقرار المفقود الذي يزعج المواطن خاصة الطبقات الوسطى وما دون.  العيش في ظروف عدم استقرار مزعج تماماً.  مررنا فيه في لبنان في فترات متعددة أهمها الثمانينات واليوم.  خصائص عدم الاستقرار الاقتصادي في لبنان هو سقوط النقد وهذا ما حصل في الثمانينات وما يحصل اليوم.  من خصائصه أيضا غياب النمو وارتفاع البطالة وحصول التضخم وزيادة الفقر. ظروف صعبة لا نحسد عليها بل هي مؤلمة جداً لمن يعيش ضمنها.

ثانياً: الترابط مع الاقتصاد العالمي أو ما يعرف عموما بالعولمة.  لا يمكن لأي دولة أن تعيش مقفلة.  لا بد من الاستيراد والتصدير في السلع والخدمات والأموال.  العلاقات مع الخارج توسع الاقتصاد المحلي وتجعله يستفيد من التقدم الحاصل في الخارج على صعيد العلوم والمعلومات وحتى الآداب.  نقل التكنولوجيا مهم جدا للنمو ومن المستحيل على أي اقتصاد في العالم اليوم أن يتطور من دون التكنولوجيا الحديثة الرقمية وغيرها. من هي أهم الشركات في العالم اليوم؟  شركات التكنولوجيا بدءاً من أمازون الى آبل وفايسبوك وغيرها.

ثالثا:  توسيع الأسواق الداخلية يتطلب تعميق الأسواق المالية وتنويعها. لا يكفي أن يتكل الاقتصاد على المصارف، بل هنالك أسواق مالية حديثة تسمح للشركات بتمويل نفسها بشفافية وتكلفة أقل. البورصات مهمة وما يدعو للعجب اليوم أن الاقتصادات تنحدر بينما البورصات تزدهر.  هذا يعود الى ضخ النقد في الاقتصادات وبالتالي لجوء المواطنين الى شراء الأسهم والسندات. الاقتصاد الحقيقي لا يتحرك بالضرورة بشكل متوازٍ مع الاقتصاد المالي، ويمكن أن تكون هنالك فروقات كبيرة في العديد من الأحيان.  مهم جداً تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة التي هي عصب الاقتصادات حتى الكبيرة. ركائز التشجيع مالي وتقني واستشاري وتدريبي مجانا أو بأسعار مدعومة من الدولة.

رابعاً: دور القطاع العام مهم في وضع الأطر المناسبة والصحيحة لنمو قوي مستمر وعام. استثمارات القطاع العام في البنية التحتية أساسية ولا يمكن لأي اقتصاد أن يطور نفسه متكلا فقط على القطاع الخاص. التعاون بين القطاعين مطلوب وضروري، لكن القطاع العام يبقى أساسياً في ميادين عدة أهمها التعليم والصحة والمساعدات المالية والعينية. من الضروري أن يكون للقطاع العام آلية حديثة تسمح باتخاذ القرارات المناسبة والفاعلة. لا يمكن للقطاع العام أن يكون له دور فاعل وصحي من دون عاملَي الشفافية والمحاسبة. تراكم المشاكل في لبنان عبر عقود طويلة يعود أولا الى غياب الشفافية وثانياً الى غياب المحاسبة. نحاول في لبنان اليوم أن ننقذ نفسنا كمجتمع من دون شفافية ومن دون محاسبة، وهذا لن يمر لا في الداخل ولا مع الخارج. دور القطاع العام أساسي أيضا في العلوم والتجدد بحيث يدعم البحوث التي تعزز موقع الاقتصاد في الخريطة العالمية.

خامساً: من نتائج النمو القوي الذي حصل في السابق تلوث البيئة الذي ترافق مع الانتاج الصناعي والازدهار في قطاع الطاقة. حصل التلوث بسبب الانتاج المرتفع الذي لم يكن ليحصل لولا الاستهلاك الكبير من دون حدود. اقترض العالم لينتج ويستهلك وحصل ذلك من دون وعي بل بتهور. في سنة 1979، حدَّثت الصين اقتصادها في ميادين أربعة هي الزراعة والصناعة والدفاع كما العلوم والتكنولوجيا. الزعيم «دينغ هسياو بينغ»  صرح يومها «لا يهم اذا كان الهر أسود أو أبيض، المهم أن يأكل الفئران» واعتبر ذلك تغيراً كبيراً في السياسات الصينية من المبدئية الى تحقيق الأهداف العملية المنتجة.كانت هذه أول ملامح انتقال الصين الى الاقتصاد الحر ضمن النظام السياسي القائم والمستمر.  مع الصين وبفضلها أصبحت المنافسة في الانتاج عالمية، اذ أن حلقة الانتاج واسعة وتمتد الى دول مختلفة، وبالتالي حصر المشكلة بالصين كما يسعى الرئيس ترامب الى وضعها غير واقعي.

النمو القوي المتواصل يدفع الى الغرور والتهور.  في الدول التي تنمو كما في الشركات، الثقة تدفعهما الى اتخاذ قرارات خطرة تربح أو تخسر بسرعة تبعا للواقع والظروف.  هنالك أمثلة قليلة لدول أو شركات ناجحة ماليا وانتاجيا وتبقى محافظة في قراراتها وفي مسيرتها. من أهم التصرفات الخاطئة رفع الاقتراض من دون حدود بالتزامن مع النجاح الاستثماري. ارتفاع الاقتراض يُبنى على فرضية استمرار النجاح وهذا يمكن أن لا يحصل.  لذا نرى دولاً عدة يرتفع داخلها الفساد في فترات النجاح، أي يأكل السياسيون الفاسدون نتائج النمو. الغرور وغياب المحاسبة يعطيان الفرص الواسعة للفاسدين كي يوسعوا أعمالهم في الاقتصاد الشرعي كما في الاقتصاد الأسود.  لبنان ليس غريباً عن هذه الممارسات.