بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 كانون الأول 2021 12:02ص النموذج الاقتصادي المميَّز

حجم الخط
نجحت أميركا اقتصادياً لكن نموذجها اليوم خاضع للمراجعتين الداخلية والخارجية.  في الداخل وبسبب كافة المؤشرات لا بد من مراجعة العديد من القوانين والأنظمة التي وسَّعت فجوة الدخل وأبقت ملايين الأميركيين فقراء كما مناطق عديدة متخلفة. تعاني أميركا من مشكلتين أساسيتين هما النظام المالي الذي أنتج أزمات كبيرة والمؤسسات الاجتماعية والصحية التي تكلف الكثير مع انتاجية ضعيفة بسبب سوء التغطية وتفشي الفساد داخلها. هاتان المشكلتان أثرتا على النتائج الاقتصادية العامة وجعلتا أميركا تخسر الكثير من رونقها وبريقها لصالح المنافس الأول اليوم وهو الصين. في القوة الشرائية يبلغ الناتج المحلي الصيني 21 ألف مليار دولار والأميركي 19 ألف مليار دولار، هذا لأن تكلفة المعيشة في الصين أقل بكثير، وبالتالي لا يمكن الاتكال على الناتج الإسمي للمقارنة.

أميركا غنية أصلا في كل شيء من النفط الى المعادن والمياه والأرض، وبالتالي حسن استعمال هذه الثروات هو في غاية الأهمية.  في الناتج الفردي يبلغ 58 ألف دولار في الولايات المتحدة و8 آلاف دولار في الصين نظرا للحجم السكاني الصيني الكبير. الأميركي الفرد أغنى بكثير لكن المستقبل ربما يصب لصالح الصين لأن تطورات التجارة العالمية بأشكالها الالكترونية تتجه شرقا. في مبيعات التجزئة الالكترونية ، يبلغ حجمها ألفي مليار دولار في الصين أي أكثر من المجموع في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ترتفع مبيعات التجارة الالكترونية سنوياً بنسبة 30% في كل من أميركا والصين و 13% فقط في أوروبا.  سبب تفوق الصين هو عدد المشتركين في الأنترنت الذي يبلغ 900 مليون صيني مقارنة بـ 300 مليون فقط في أميركا.  مستقبل التجارة الالكترونية وبالتالي مستقبل التجارة عموما يعتمد على الصين وتطورها ونموها.

لا شك أن أميركا ما زالت تتفوق اليوم على الصين في العلوم وفي كل الصناعات المستثمرة في المستقبل كالذكاء الاصطناعي والحواسب والسيارات الحديثة كما في المال وتقنياته الجديدة.  مشكلة أميركا مقارنة بالصين هي السياسات السيئة التي تطبق من حين لآخر، آخرها في العهد السابق حيث تم عزل أميركا عالميا عن الأمور المهمة كالمناخ والسلام والصحة والتجارة والمنطق.  في كتاب جيد لـ«غرينسبان» و«وولدريدج» عن الاقتصاد الأميركي، يقولان أن تنوع الاقتصاد هو بأهمية حجمه وهذا هو حال أميركا.  فوجود مراكز عدة للقوة الاقتصادية الأميركية في الجغرافيا هو دليل واضح على قوة أميركا.  في العديد من الدول، ترتكز القوة الاقتصادية في العواصم كباريس ولندن وغيرها، أما في أميركا فهي موزعة في كل الاتجاهات كنيويورك وشيكاغو ولوس أنجليس وغيرها وهذا دليل قوة.

هنالك نقطتان سودويتان في رأي الكاتبين في المسيرة الأميركية الاقتصادية وهما سوء معاملة سكان البلاد الأصليين أي الهنود كما التمييز الكبير ضد الأقليات وفي مقدمها السوداء ومؤخرا الأسيويين. ما زال السكان الأصليون يطالبون بحقوقهم، ولكن لا وجود لمن يسمع علما أن ادارة بايدن عينت شخصية نسائية في مرتبة وزير كمؤشر للمعاملة المستقبلية المنتظرة.  حقوق الأقيلة السوداء أصيبت بمقتل جورج فلويد وغيرها من الحالات المماثلة.  أما الهجوم على الأقليات الأسيوية فأتى مع الكورونا المستوردة «صينيا» والتي أحدثت خسائر كبيرة ضمن مجموعة تميزت باندماجها السريع في المجتمع وبنجاحها الاقتصادي المدهش.

توسعت أميركا تدريجياً حتى أصبحت على ما هي عليه. اشترت «لويزيانا» من فرنسا في 1803 و«فلوريدا» من اسبانيا في 1821 وضمت «تكساس» في 1845 و«أوريغون» في 1836.  حصلت على «كاليفورنيا» بعد الحرب مع المكسيك في 1850.  هذا التوسع الكبير بالاضافة الى نظامها الديموقراطي الخاص أعطى نتائج ايجابية وسلبية واضحة. لكن النظام الديموقراطي يعاني اليوم شعبياً وفي القوانين وما الهجوم على الكونغرس في بداية 2021 الا ليؤكد ذلك.  عدم توافر بديل ديموقراطي عملي سيؤدي الى بعص التغييرات التي ربما لن تكون بالضرورة اصلاحات كما تشير اليه التعديلات المقترحة في قوانين الانتخابات في مختلف الولايات خاصة الجنوبية.  أقله في أميركا، هنالك من يفكر في التغيير ويدعو له.

ما هي العوامل التي أسست أميركا وما تزال مؤثرة في الاقتصاد والسياسة؟ ما هي العوامل التي سمحت بزيادة الانتاجية في كل القطاعات وبخلق عقلية التجدد والابتكار والتغيير والانفتاح؟  كيف تكونت ثقافة النمو والانتقال بسرعة من وضع لآخر ومن منطقة لأخرى؟ هذه المرونة فريدة سمحت في توزيع التنمية على كل الولايات ولكن بدرجات مختلفة.

أولا: النظام الحر الذي بني على أفكار أدام سميث والذي سمح للاقتصاد بالنمو السريع، فأصبح الأول عالميا.  طبعا خلق هذا النظام مع الممارسة أزمات كبيرة في سوء العدالة لكن الاستثمارات في البنية التحتية سمحت له بأن يحدث نفسه ويتطور.  تحسن النقل والاتصالات بالاضافة الى القطاعات الانسانية من صحة وتعليم سمحوا لأميركا بالنهوض السريع والنوعي.

ثانيا: ثأتير الحضارة الدينية في بناء الدولة والمؤسسات والتي اعتمدت ركائزها على أفكار علماء البروتستانت مما ساهم في تطويرها. ما زال هذا التأثير واضحاً في كل جوانب المجتمع بالرغم من ظهور حضارات أخرى بدأت تؤثر لكن ليس بالحجم نفسه.

ثالثا: احترام الدستور الى أقصى الحدود وكل ما ينتج عنه من قوانين ومؤسسات.  هذا مهم جدا لفض النزاعات وتنفيذ القرارات والنتائج.  هذا مهم لوضع حدود في ممارسة السلطة منعا للتسلط والفوضى.

رابعا: احترام حقوق الملكية العقارية وثم لاحقا الفكرية وغيرها. لا يمكن بناء أي استقرار اقتصادي من دون حماية الملكيات والحفاظ عليها اذ تشكل الدافع الأساسي للتقدم والاستثمار.

خامسا: هنالك احترام قلَّ مثيله لقطاع الأعمال مما سمح بنموه ونضوج شركاته في الحجم والانتاج. ليس كل من نجح في الاقتصاد فاسداً، ولا بد من التمييز بين الأداءين الجيد والسيىء.  ينوِّه المجتمع الأميركي بالمتفوقين في الأعمال والمهن ويعتبرهم مضرب مثل أو نموذجاً للأجيال الجديدة كي يستمروا وربما ينجحوا أكثر. أمثال «بيل غايتس» و«ستيف جوبز» ليست نادرة، وتحوذ على اعجاب المجتمع.

هنالك واقعان مهمان.  تحصل الأزمات المالية لأن الشركات الاستثمارية توظف أموال الناس وبالتالي تغامر بها. تحصل هي على الأرباح وتحمل المخاطر للمجتمع. لو استثمرت بأموالها أو أموال أصحابها لتحفظت، وبالتالي كانت النتائج أفضل بكثير.  ليس المهم أيضاً حجم الدين بل تكلفته.  فائدة 10% ليست كفائدة 1% وبالتالي التركيز على حجم الدين ونسبته من الناتج لا يؤدي الى اتخاذ القرارات الجيدة. المهم تخفيض الفوائد لتشجيع الاستثمارات وتحفيز النمو وهذا هو دور المصرف المركزي المستقل.