بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 شباط 2023 12:20ص انتخاب رئيس مستقل منعاً لانهيار أمني

حجم الخط
بعد ثلاث سنوات وأربعة أشهر من اندلاع انتفاضة 17 تشرين أول عام 2019 ما زال لبنان يدور في حلقة سياسية واقتصادية مفرغة، حيث تفككت مؤسسات الدولة الواحدة تلوَ الأخرى، بدءًا من رئاسة الجمهورية والحكومة والقضاء لتصل اليوم الى حالة اهتراء في السلطة التشريعية، وذلك على ضوء عجز المجلس النيابي عن الالتئام سواء لانتخاب رئيس للجمهورية أو لتشريع «الضرورة». فشل رئيس المجلس وهيئة مكتب المجلس خلال هذا الاسبوع في الدعوة الى عقد جلسة تشريعية، كان قد سبق أن دعا إليها رئيس المجلس النيابي.
في الوقت نفسه، فان موظفي الإدارات العامة، والهيئات التعليمية هم في اضراب مفتوح منذ ما يزيد على شهر كامل. ويبدو بأنهم مستمرون في اضرابهم في ظل قصور مجلس الوزراء عن التجاوب مع مطالبهم لزيادة رواتبهم ومخصصاتهم لتتجاوب مع متطلبات حياتهم اليومية في ظل الانهيار الدراماتيكي لقيمة النقد الوطني وجنون الاسعار للمواد الغذائية وللمحروقات على حد سواء، وبالفعل فإن الأزمة الاقتصادية والنقدية التي بدت متباطئة في السنوات الماضية قد أخذت مساراً متسارعاً منذ بداية هذه السنة، حيث فقدت الليرة اللبنانية 90 في المئة من قيمتها خلال فترة شهرين ونصف، ما تسبب في ارتفاع هائل في اسعار السلع، في اقتصاد يعتمد على الاستيراد. وما يزيد في حالة بؤس المواطنين التعامل المجحف للدولة وللمصرف المركزي وللمصارف مع مدخراتهم المحتجزة في المصارف منذ بداية الأزمة عام 2019.
المؤسف في الأمر بأنه لا يمكن للبنان النهوض من أزمته المالية والاقتصادية من دون تلقي مساعدات وقروض من الخارج، والتي باتت مربوطة بتوقيع لبنان على برنامج اصلاحات مع صندوق النقد الدولي، والذي يطالب السلطات اللبنانية بإحداث اصلاحات وتغييرات رئيسية في بنية النظام. ويبدو جلياً بأن البرامج الاصلاحية المطلوبة من صندوق النقد الدولي ومن اصدقاء لبنان ما زالت تلقى معارضة قوية من احزاب وكتل نيابية وازنة قادرة على تعطيل عمل الحكومة ومنع انعقاد مجلس الوزراء من جهة، وتعطيل العمل التشريعي في مجلس النواب من جهة ثانية.
بدأت الأزمة في منتصف عهد ميشال عون، الذي ماطل مع كتلته النيابية من التيار الوطني الحر وبمساندة كاملة من حليفه حزب الله في اجراء الاصلاحات الضرورية في ظل حكومة حسان دياب التي شكلاها لتحل مكان حكومة سعد الحريري التي سقطت تحت ضغط الانتفاضة الشعبية التي عمّت معظم المناطق اللبنانية. ولكن سرعان ما واجهت الحكومة مقاومة من اطراف سياسية فاعلة، فانهارت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي في حزيران 2020 مما تسبب ببدء المسار الانحداري لسعر صرف الليرة اللبنانية، وجاءت جائحة كورونا وانفجار مرفأ بيروت الكارثي في 4 آب لتطوِّق الحكومة وتُجبرها على الاستقالة بعد ستة أيام من الانفجار.
في ظل الانقسام السياسي والنزاع السياسي الشديد القائم بين العهد وحليفه حزب الله مع القوى السياسية الاخرى، فشل لبنان في الاستفادة من مبادرة الرئيس ايمانويل ماكرون لتحقيق التغيير المطلوب، كما فشل في تشكيل حكومة جديدة برئاسة سعد الحريري بعد جهود مضنية استمرت نحو تسعة أشهر، والى ان تنحى في 15 تموز 2021، حيث خلفه نجيب ميقاتي. وكانت اسباب فشل الحريري في تشكيل الحكومة تعود كلياً الى عداء جبران باسيل للحريري، بالاضافة الى عداء باسيل لكل القوى السياسية المسيحية والسنية، وتمسكه بالحصول على الثلث المعطل داخل مجلس الوزراء.
لم تستطع حكومة ميقاتي حتى رسم خارطة طريق ذات مصداقية للعملية الاصلاحية المطلوبة، بل اختارت طريق اعتماد اجراءات ترقيعية مؤقتة، يهدف ايضاً لتخفيف مسار التدهور الحاصل اقتصادياً واجتماعياً. ويبدو ان القوى السياسية قد دعمت هذه الاجراءات الموقتة بدل اعتماد اجراءات اصلاحية عميقة، وذلك خدمة لمصالحها الخاصة، وتحضيراً للانتخابات النيابية في ايار 2022.
في ظل المأزق السياسي المستمر، تابع لبنان سياساته الترقيعية الى ان تم استنزاف كل احتياطي العملة الاجنبية في مصرف لبنان، والذي بدأ خفض مستوى التحويلات الضرورية بالدولار. وهذا ما انعكس في نهاية الامر في خفض استيراد الادوية والمحروقات، وهذا ما ادى الى ازمة تموينية خانقة بالمحروقات وبانقطاع شبه كلي للتيار الكهربائي.
بعد الانتخابات، لم يستطع نجيب ميقاتي تشكيل حكومة جديدة فاعلة وذلك بسبب اشتداد اجواء العداء بينه وبين الرئيس عون وصهره جبران باسيل، حيث غادر عون الرئاسة في 31 تشرين اول 2022 تاركاً البلاد بعهدة حكومة تصريف اعمال لا يمكنها الاجتماع الا لمواجهة متطلبات الضرورات الكبرى، وبالتالي تاركاً البلاد تواجه حالة تفاقم خطيرة للأزمة السياسية والاقتصادية والحياتية.
في ظل الوضع الراهن، لا رجاء ولا أمل في اتخاذ أية خطوات اصلاحية، تحد من حالة الانهيار الكلي والمتسارع للوضعين الاقتصادي والنقدي. فالاصلاح ووضع خطة تعافٍ يتطلبان وجود سلطة سياسية قادرة، وهذا يفترض اولاً انتخاب رئيس للجمهورية، والشروع بتشكيل حكومة فاعلة ومن كفاءات عالية، في وقت لا تبدو فيه اي امكانية لحصول اي توافق سياسي داخلي او اقليمي او دولي مساعد لتحقيق ذلك، في الأفق المنظور.
إن ما يدعو لمزيد من التشاؤم في اعتماد اية مقاربة فعلية للحل يتمثل بعدم رغبة لدى الأحزاب والقوى السياسية الرئيسية، وذلك انطلاقاً من خوفها من انكشاف مخالفاتها المالية وفسادها، وتورطها في نهب المال العام.
يتفق اصحاب الرأي من اللبنانيين مع القوى الدولية المهتمة بمتابعة الوضع اللبناني بأن الدولة اللبنانية قد تحللت وتآكلت، وبأن الضغط الاجتماعي قد بلغ مرحلة تهدد بحدوث انفجار شامل، الأمر الذي سيؤدي حتماً الى تردي الاوضاع الامنية، والى نشوب اعمال شغب، بدلاً من ان تولد ضغوط سياسية، تطالب بالتغيير على غرار ما حدث في انتفاضة 17 تشرين.
في رأينا اذا كانت القوات المسلحة والقوى الامنية قد نجحت حتى الآن في ضبط الاوضاع والاحتجاجات وامتصاص موجات الاحباط الشعبي لدولة فاشلة تغرق في مزيد من فشل طغمتها الحاكمة، فان قدراتها ستتراجع مع الزمن، إذا ما طال الفراغ السياسي ومعه الأمل باعتماد اية اصلاحات صحيحة. يبقى الخوف من ان يتحول الجيش للوجه الفاشل للدولة، بحيث تتحول وظيفته الى اداة قمع بيد السلطة الفاشلة لكن يبقى ايضاً من المسلم به الدور الأساسي الذي يمكن ان يلعبه الجيش في منع واحتواء اية صدامات يمكن ان تحدث بين الفئات المتناحرة في لبنان سياسياً وطائفياً. نقول هذا الكلام الواضح بغية التحذير من التهديدات التي باتت تلوح في الأفق، جراء مطالبة بعض الفئات بالفيدرالية وبالأمن الذاتي، اذا استمرت وارتفعت التوترات السياسية الراهنة، وفق ما حمل الخطاب الاخير لأمين عام حزب الله من مؤشرات للتصعيد وللرد على اثارة الفوضى على مستوى الشارع، فانه يمكن الاستنتاج بأن البلاد باتت تسير نحو حالة من التفكك السياسي والاجتماعي، وبما ينذر بحدوث اعمال شغب في مناطق عديدة، ترهق القوى الامنية، كما يكون احتواؤها صعباً من خلال الاتصالات بين مختلف القوى والاحزاب التقليدية.
كيف يمكن للبنان مواجهة الوصول الى حال المأزق السياسي والامني والمعيشي؟
في رأينا تبقى الخطوة الاولى في تضافر الجهود الداخلية والخارجية لتسهيل عملية انتخاب رئيس للجمهورية، والذي يفتح الباب لتشكيل حكومة كفاءات فاعلة وقادرة على اعادة بناء مؤسسات الدولة، ووضع خطة تعافٍ اقتصادي، تبدأ من وقف انهيار الليرة، وضبط كلفة المعيشة للمواطنين، الذين بات اكثر من 80 في المائة منهم يعيشون تحت خط الفقر.
نحن نقرّ بصعوبة حصول توافق على اسم رئيس بين حزب الله ومعارضيه ولذلك لا بد من اللجوء الى مساعدة القوى الدولية والعربية لتسويق مرشح مستقل يحظى بثقة القوى السيادية، انطلاقاً من خلفيته السياسية، كما انه لا يثير مخاوف حزب الله في الوقت الراهن، وإن ابرز الاسماء يبقى اسم قائد الجيش العماد جوزاف عون لتبوؤ موقع الرئاسة في هذه المرحلة العصيبة.
في النهاية، يدرك اللاعبون الخارجيون الرئيسيون بأن لبنان غير قادر على الخروج من ازمته الراهنة في المستقبل المنظور، وهو غير قادر على حل مشكلة سلاح حزب الله والنفوذ الايراني، وبأنه لا بد من القيام بإجراءات مؤقتة لتفادي اسوأ تداعيات انفجار داخلي مقبل، وبأن الحل الممكن يتمثل بانتخاب رئيس حيادي يقود السفينة بأمان الى حين توفر الظروف الدولية المؤاتية لحل مسألة السلاح النووي الايراني، والحد من نفوذ ايران على مستوى المنطقة، وبما يفتح الباب لحل مسألة سلاح حزب الله وهيمنته على قرار الحرب والسلام في لبنان.