بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 شباط 2022 08:25ص بوتين يروّض الغرب ويرسم خارطة جديدة للعالم

حجم الخط
أعتبر أن هذا المقال يعبّر عن توقي للخروج من زواريب السياسة المحلية والذهاب نحو الأفق  الاوسع، الأزمة الراهنة بين روسيا واوكرانيا هي أزمة عميقة الجذور ولا نغالي إذا اعتبرنا ان اسبابها تعود لثلاثة عقود، أي إلى فترة انفراط عقد الاتحاد السوفياتي وتحرر الجمهوريات السوفياتية السابقة من الهيمنة الروسية. فالازمة هي اعمق من وضع عدد من المقاطعات الاوكرانية الملاصقة لروسيا، وسكان هذه المقاطعات واصولهم الروسية. وتتعدى الأزمة بشكل أو بآخر موضوع انضمام اوكرانيا إلى حلف شمالي الأطلسي، حيث انها تأتي نتيجة النظام الأوروبي الذي يسعى الغرب إلى اقامته في وجه روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، دون ان يكون لموسكو أي دور سياسي أو استراتيجي أو اقتصادي.

شعر الرئيس فلاديمير بوتين منذ وصوله إلى الكرملين بأن هناك محاولة تشارك فيها الولايات المتحدة وأوروبا بتطويق روسيا وعزلها عن القارة الأوروبية، وذلك من خلال العمل على ضم الجمهوريات السوفياتية السابقة إلى حلف شمالي الأطلسي، وبالتالي مد خط المواجهة مع الغرب إلى الحدود الروسية نفسها. حاول بوتين في البداية إقناع الدول الغربية بأن النظام الجديد يمثل تجاهلاً كاملاً للهواجس الأمنية الروسية، وبأن عليها ان تأخذ بالاعتبار والاعتراف بأن لروسيا الحق في الحفاظ على دائرة تحافظ فيها على مصالحها الاستراتيجية في بعض مناطق النفوذ السوفياتي السابقة، وخصوصاً في الدول الملاصقة لحدودها.

وجاءت ردة فعل بوتين الأولى للتعامل مع المخاوف من نتائج المخطط الأوروبي لتطويق روسيا من خلال تدخله العسكري في جورجيا وذلك رداً على خروجها من دائرة النفوذ الروسي، وبالتالي منعها من الاصطفاف مع دول حلف شمالي الأطلسي.

ويبدو بوضوح بأن بوتين يحاول من خلال حشده العسكري على حدود اوكرانيا التحضير لعملية عسكرية واسعة، قد تصل إلى احتلال العاصمة كييف، وتأتي هذه الخطوة بعد سنوات من احتلال القوات الروسية شبه جزيرة القرم في عام 2014، ويريد بوتين من خلال تحركه العسكري الجديد ضد أوكرانيا ان يُؤكّد حق روسيا في احتلال موقع النفوذ الذي تستحقه في أوروبا وعلى المستوى العالمي.

في الرؤية الراهنة للاستراتيجية الروسية الشاملة يرى بوتين ان البرهة الراهنة تسمح له بتخفيف أهدافه سواء لدفع الدول الغربية لإعادة حساباتها، ووقف تقدمها باتجاه الحدود الروسية، فالولايات المتحدة في رأيه تواجه انقسامات سياسية حادّة، وأن تراجع انتشار قواتها العسكرية حول العالم وخصوصاً بعد انسحابها من أفغانستان وتخفيف انتشار مقاتلاتها وانظمتها للدفاع الجوي من دول الخليج بجعلها في موقف ضعف، وتردد عن القيادم بأي تحرك عسكري، فاعل ضد المخطط الروسي تجاه اوكرانيا.

في الواقع، ورغم تصريحات عدد من المسؤولين الأميركيين حول اتخاذ بوتين قرار شن هجوم داخل اوكرانيا، فإنه ما زال من المشكوك فيه وجود قرار متخذ بتنفيذ هجوم روسي، وان ما يسعى إليه بوتين من خلال الحشد العسكري ونشره في وضع هجومي ان يدفع الدول الاوروبية إلى التعامل مع روسيا بنفس الحذر والمخاوف الذي كانت تتعامل فيه مع الاتحاد السوفياتي، وبأن عليهم بالتالي التعامل بجدية مع مطالبها وتطلعاتها.

يبدو بوضوح بأن بوتين يعمل من خلال اعتماد استراتيجية حافة الهاوية عسكرياً إلى إقناع الدول الغربية بأن يحتفظوا بمقعد خاص لروسيا على طاولة بحث جميع القرارات الدولية الهامة، وبأن روسيا يجب ان تكون عضواً فاعلاً في المجلس الدولي لإدارة الأزمات العالمية، وبأن روسيا قد خرجت إلى غير رجعة، من فترة تسعينيات القرن الماضي، حيث كان الغرب يُحدّد لها أجندة تحركاتها، وسياساتها في معظم مناطق العالم، وخصوصاً في أوروبا والشرق الأوسط.

وبالفعل فقد قام بوتين باعتماد سياسات تؤكد على جديته في تحقيق هدفه لاستعادة موقع نافذ لروسيا على المسرح الدولي، وخصوصاً في أربع محطات هامة:

الأولى، جاءت بعد الحرب مع جورجيا عام 2008، حيث عمل على إعادة تجهيز وتحديث القوات المسلحة الروسية، لتصبح قوة أوروبية كبرى، بالإضافة إلى اعطائها القدرات الاستراتيجية للتدخل في مسار عمليات بعيدة على غرار ما حدث في الحرب السورية.

الثانية، رداً على طرد موسكو من مجموعة الدول الصناعية الثماني بعد احتلال شبه جزيرة القرم، فقد عمد بوتين إلى تفعيل دور روسيا في مجلس الأمن الدولي، وإلى لعب دور أساسي في سياسات الطاقة الدولية، والطاقة النووية، وكقوة طامحة للعب دور فاعل في مختلف الأزمات الدولية.

الثالثة، الاستفادة من التدخل العسكري في سوريا لاستعادة دور روسيا كلاعب أساسي في شرق المتوسط، وصولاً إلى التدخل في الأزمة الليبية، والتوسع للطموح في تأمين قواعد بحرية جديدة للاسطول الروسي.

الرابعة، تفعيل الدبلوماسية الروسية لإعادة بناء علاقات قوية بين روسيا ودول الشرق الأوسط، هذا بالإضافة إلى استضافة مؤتمرات عديدة في محاولات لتأمين دور أساسي لموسكو في البحث عن حلول للأزمات الحادّة، ومنها الأزمة السورية.

يعتبر بوتين بأن الولايات المتحدة وأوروبا تمارسان حالة إنكار لشرعية وواقعية المصالح الحيوية الروسية، وخصوصاً هواجسها الأمنية الناتجة عن تمدد الاتحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي إلى الحدود الروسية سواء من جانب جمهوريات البلطيق الثلاث استونيا ولاتفيا وليتوانيا أو من جهة الشرق أي اوكرانيا، وسبق لوبتين ان طالب في مقال نشره بضرورة تحييد الدول المحيطة بروسيا بما فيها فنلندا والسويد وجمهوريات البلطيق واوكرانيا.

من خلال هذه الدعوة التي يعتمدها بوتين لتحييد كل الدول المجاورة لروسيا، والتي لا تدور في فلك نفوذها بعد انتهاء الحرب الباردة، يبدو بوضوح بأن بوتين يتقارب جداً مع نظرية جورج اورويل لسيادة الدول والذي يعتبر ان هناك دولاً تملك الحق بممارسة سيادتها أكثر من الدول الأخرى. وهذا ما يدفعه في الواقع إلى تحدي نظام الهيمنة الذي اعتمدته الولايات المتحدة وأوروبا واليابان بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وينسب إلى بوتين، في هذا السياق قوله بأن هناك بعض القوى الدولية تملك الحق في ممارسة سيادتها كاملة وهي: روسيا والصين والهند والولايات المتحدة، بينما يفترض في القوى الدولية الأخرى ان تمارس سيادتها بصورة نسبية أو مشروطة، ولذلك فقد اعتمد هذا المبدأ في تعامله مع الدول المجاورة لروسيا وأبرزها جورجيا واوكرانيا. اما تجاه الدول الأخرى فقد دعم نظام الحكم القائم على الشخص الحاكم، على غرار علاقته مع عدد من الدول في وسط آسيا ومع بيلاروسيا ومع سوريا، كما انه انشأ ميليشيات روسية للتدخل في أزمات بعض الدول الأخرى لدعم الأشخاص الاقوياء الطامحين للسيطرة داخل بلدانهم. انها محاولة روسية لرسم خريطة جديدة تعيد العالم إلى توازنات القرن التاسع عشر.

يعتبر بوتين ان استعداداته العسكرية على حدود اوكرانيا هي بمثابة إنذار للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ودعوة صريحة لهم لإعادة النظر بمخططاتهم تجاه روسيا ومصالحها، وهي رسالة قوية لإفهامهم بأنه يرفض رؤيتهم الراهنة والساعية إلى تطويق روسيا، كما انها تحمل دعوة للولايات المتحدة لإعادة تقييمها لسياسة تقاسم النفوذ في العالم، وعلى اساس تقاسم ذلك بين القوى الرئيسية الثلاث أي روسيا والصين والولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف يعتقد بوتين بأنه لا بدّ من إقناع حلف شمالي الأطلسي بالتراجع إلى المواقع التي كان يحتلها قبل عام 1997، أي قبل بداية توسيع الحلف ليشمل دول أوروبا الوسطى والشرقية، والتي شكلت جزءاً سابقاً من حلف وارسو والاتحاد الأوروبي.

في النهاية ما يريده بوتين ان تسود في الدول المجاورة حكومات تعمل تحت ظل النفوذ الروسي، على غرار الوضع في بيلاروسيا وكازاخستان، إنها دعوة ليالطا جديدة.