نمرُّ في لبنان في ظروف صعبة ليست فقط سياسية وإنما خاصة اقتصادية واجتماعية. تكمن المشكلة في أن اداء السلطات عموما ليس بمستوى الأزمة وطموحات اللبنانيين. التخبط موجود والتردد واضح وحسن اتخاذ القرارات غائب. من الضروري انتخاب رئيس جديد للجمهورية يتسلم السلطة من الرئيس الحالي كما يحصل في كل الدول. من الضروري أيضا تشكيل حكومة جديدة من الأفضل بعد انتخاب الرئيس لأن المدة المتبقية من العهد قصيرة. لم تعط الجلسة الأولى للانتخاب نتيجة واضحة، لكن المقلق هو أن علينا أن ننتظر اجماع 128 نائبا كي ننتخب الرئيس الجديد وهذا مستحيل لأن الخلافات أو الاختلاف كبير وواضح ولا امكانية للاتفاق على اسم واحد. هل نسير في الاتجاه الخاطئ الخطر؟
لا مفر من توقيع اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي ليس فقط للحصول على قرض منه وانما هذا الاتفاق يفتح الباب أما أموال أخرى أهم وأكبر أي قروض ومساعدات تأتي من الدول الشقيقة والصديقة بعد التوقيع. واقعيا البدائل الأفضل غير متوافرة بالاضافة الى أن الاصلاحات التي يطلبها صندوق النقد منطقية وليست تعجيزية وأصبح الصغير قبل الكبير في لبنان يعرفها غيبا. أقرت حسابات 2022 ويجب البدء بسرعة في دراسة موازنة 2023 واقرارها قبل آخر السنة حتى نستطيع وضع البلد على الطريق الصحيح.
في السياستين الاقتصاديتين ولتحقيق موازنات مستقبلية فاعلة وشفافة يجب أن نقرر في أي اتجاه نريد أن يتوجه البلد. هل يجب أن يبقى الانفاق فقط جارياً؟ هل من الممكن وضع برنامج للانفاق الاستثماري لأن وضع البنية التحتية سيىء بل يحتاج الى الصيانة والتجديد والاستبدال؟ اذا قبلنا بضرورة الانفاق الاستثماري، فأي مرفق نختار وما هي الأولويات؟ أين التمويل وقد عرفنا مؤخرا أن هنالك امكانية لرفع الايرادات حتى في ظل البنية الحالية أي في المطار والمرافق العامة عموما أي من أعمال وخدمات تقدم الى قطاع الأعمال والمواطنين.
أسواء المعارضات هي معارضة كل شيء وأسواء الموالاة هو القبول بكل شيء. في الدول المتطورة ديموقراطيا، تهنئ المعارضة الأحزاب الحاكمة عندما يقومون بأعمال جيدة وهذه هي طبيعة العمل السياسي الجدي. تنتقد الأعمال الخاطئة وتعرض البدائل مما يساهم بانقاذ البلد ومساعدة المواطن. المعارضة للمعارضة والموالاة للموالاة هما في غاية السوء والسطحية.
في السياسة المالية ليس هنالك وضوح للسياسات التي ستتبع لأن الأرقام وحدها غير كافية لقراءة الحاضر وتوقع المستقبل. يجب تحديد برنامج ضمن الامكانيات المتوافرة لتفعيل الجباية وترشيد الانفاق. زادت الأجور مؤخرا ومن الخطأ تمويلها عبر الطبع النقدي الذي يحدث تضخما يأكل الزيادات ويعيدنا الى الوراء. هنالك وسائل أخرى ترفع الايرادات في المرافق والبناء والرسوم التي أكلها انهيار الليرة منذ 2019. من الممكن أن يخصص صندوق النقد أموالا اضافية تساهم في تمويل عجز الموازنة اذا بقيت ضمن معايير الترشيد والمنطق.
مؤخرا أدخل سعر جديد للدولار الجمركي يساهم في زيادة الايرادات وفي تعزيز أوضاع الشركات المحلية التي تنتج نفس السلع وهذا جيد علما أن الأسعار ارتفعت أصلا قبل التغيير بسبب دولار السوق الحرة المرتفع. أما السعر الرسمي للدولار فهذه بدعة أدخلت الى لبنان في التسعينات واقتبست من الدول الاشتراكية التي اعتمدت سعرين، أي من بعض الدول العربية كسوريا ومصر والجزائر والعراق وغيرها. ليس هنالك سعر رسمي وآخر غير رسمي للنقد. فالسعر الوحيد الذي يعتمد هو سعر السوق الحرة. عندما نقرر ذلك في لبنان، سينحدر سعر السوق الحرة الى حوالي 25 ألف ليرة للدولار ويتقلب في السوق عبر عمليات العرض والطلب العادية. بدعة السعر الرسمي الى غير رجعة، وما جرى من تعديل يكون مقبولا اذا كان على طريق توحيد أسعار الصرف كما يريد ليس فقط صندوق النقد بل كما يريد المنطق والمصلحة العامة.
في الوضع البريطاني حاليا وللمقارنة المبدئية، تريد رئيسة الوزاء تخفيض الضرائب لأنها الأعلى في أوروبا، لكنها تريد تمويلها عبر الاقتراض وهذا ما ساهم في سقوط الليرة الى مستويات لم تعرفها منذ عقود. يجبر المصرف المركزي على رفع الفوائد لتخفيض التضخم مما يمكن أن ينعكس سلبا على النمو وبالتالي يحدث الركود المضر كما البطالة المرتفعة. سياسات رئيسة الوزراء ستحدث نموا على المدى الطويل، لكن المشكلة تكمن في أن المواطن كما أصحاب القروض والسندات وحتى قطع الأعمال العادي يريدون نتائج سريعة لا يمكن أن تتحقق. فكرة رئيسة الوزراء تعتمد على منطق تشجيع الاستثمارات والنمو تحضيرا للانتخابات القادمة بعد سنتين وبالتالي بقاء حزب المحافظين في الحكم. تشير الاستطلاعات الى خسارتها المتوقعة أمام حزب العمال.
أما في لبنان، فالسياسة المالية تتخبط ليس فقط بسبب التقنيات القليلة المتوافرة وانما بسبب غياب القرار السياسي الواضح كما يحصل في الدول المتقدمة حيث يقرر السياسة المالية خط سياسي ما أو حزب حاكم وبالتالي لا فوضى. يعاني لبنان من التخبط والفوضى في السياسة المالية نتيجة ضياع آلية القرار ووجود مصالح وفساد ليس من السهولة ايجادهما في دولة أخرى. أما السياسة النقدية، فربط الليرة بالدولار منذ عقود أفقدنا عمليا استقلالية القرار الذي ربط بما يقرره المصرف المركزي الأميركي الرافع اليوم للفوائد لمواجهة التضخم. مع تحسن الأوضاع يجب العودة الى سعر واحد حر للصرف تماما كما كانت أوضاعنا قبل سنة 1975 وكما هي أوضاع أكثرية دول العالم التي تعتمد السعر الحر المراقب وليس الثابت. نضيف الى ما سبق أن مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف لم توضح بعد أفكارها بشأن الودائع والقطاع المصرفي كما القطاع المالي عموما وهذا ما يضيف الى الضبابية الحالية المزعجة. تخبط السياستين سيعرقل الانقاذ ويجب معالجته بسرعة.