بيروت - لبنان

اخر الأخبار

14 تشرين الأول 2022 08:02ص توقُّع الأزمات الاقتصادية

حجم الخط
يقول الاقتصادي «ريشارد بوكستابر» انه لا يمكن للنماذج الاقتصادية المبنية على الرياضيات أن تتوقع المفاجئات. الرياضيات مهمة جدا في تنظيم التفكير وربط المواضيع كما تساعد العلوم الأخرى على تحسين نتائجها في خدمة الطبيعة والانسان. لكن هنالك كوارث تحصل لم يهدف اليها المواطن والمجتمع بالاضافة الى الكوارث الطبيعية والانسانية. تحصل مثلاً حوادث غير مقررة في صفوف المواطنين عند شراء بطاقات مباريات الرياضة أو المهرجانات الفنية أو الاحتفالات الكبيرة. يحصل عندها تدافع مؤلم بين المواطنين يذهب ضحيته العشرات، تماما كالأزمات المالية المفاجئة الموجعة.
تختلف كل أزمة عن الأخرى في أسبابها ومحتواها ونتائجها، وبالتالي هنالك ظلم تجاه العلوم الاقتصادية التي لا يمكنها عمليا تغطية كل شيء. خلال الأزمات تتعطل المؤسسات والفرضيات التي تُبنى عليها العلوم، وبالتالي تخطئ في تنبؤ المستقبل. في الأزمات يتصرف المواطنون بشكل مختلف وبالتالي تأتي النتائج مختلفة. حتى قبل الأزمات في الظروف المعقدة التي تسبقها، تسوء العلاقات الاقتصادية اكثر مما تتوقع النماذج العادية التي تصبح غير مناسبة. فالانسان متحرك في فكره وشعوره وتصوره وبالتالي لا يمكن توقع تصرفاته.
سابقا كان تأثير التطور التكنولوجي مختلفا جدا لأن الانسان كان مختلفا أيضا. لنعود قروناً الى الوراء عندما حصلت ثورة سكك الحديد، فكانت تأثيراتها هائلة على كل جوانب الاقتصاد من الصناعة الى التجارة كما على كافة جوانب الحياة. وقتها قال «كارل ماركس» أن الوقت ألغى المسافات وحوَّل المنتج الى سلعة. تغيرت الحياة مع سكك الحديد وهذا لم يمنع حصول أزمات عدة متكررة ربما لم تكن بحجم وعمق الركود الكبير. قال الاقتصادي البريطاني «جيفونز» ان العلوم الاقتصادية الجدية هي التي تصف واقع الحياة وتفسر أيضا الأزمات. لذا في رأيه تحتاج العلوم الاقتصادية الى الرياضيات كأداة أساسية للتفسير.
ما هي الحلول الممكنة؟ المطلوب عدم تعميم العلاقات الاقتصادية والنماذج العلمية على كل الظروف والأوقات والمجتمعات. يمكن تقسيم الدراسات الاقتصادية على مراحل زمنية تأخذ بعين الاعتبار التغيرات الانسانية الحتمية في ظروف عالمية متحركة. تطور الحواسب يسمح بإيجاد حلول لكافة العلاقات الاقتصادية وبالتالي يمكن أن تكون مرنة أكثر من الرياضيات. المهم أن لا يعتبر الاقتصاديون في دراساتهم أن المستقبل هو امتداد للماضي، وبالتالي يخطئون كما حصل مرارا في السابق. لا يستفيد الانسان من تجاربه الناجحة والفاشلة اذا اعتبر أن المستقبل امتداد تلقائي للماضي والحاضر. عندها لا يبذل الجهود الكافية لتحسين الاداء أو أقله تخفيف الخسائر تبعا للتجارب السابقة، وهذه مشكلة. فالانسان ليس ماكينة أو آلة تتحرك دون تفكير أو مراجعة كاملة للحاضر والماضي.
للانسان مستهلكا أو منتجا أراء ومنطق وأفضليات يمكن أن تتغير تبعا للظروف التي يمكن أن تكون أهم من العقيدة أو المحتوى في العديد من الأحيان. جمود التفكير مقبول على المدى القصير ولا يصلح لتوقعات متوسطة أو طويلة الأمد، وخاصة لا يصلح في ظروف أزمات. يعتمد الاقتصاديون على الاحصائيات لتفسير الواقع وتوقّع المستقبل، لكن المشكلة تكمن في أن النماذج الاحصائية لا يمكن أن تتوقع الأزمات المفاجئة. تُبنى هذه النماذج على الاستقرار مع احتمالات حصول نتائج مختلفة ضمن المعايير العادية المعتمدة. استعملت الاحصائيات بشكل فاعل لتوقُّع تطور اصابات كورونا ونجحت في غالبية الأحيان. من الطبيعي أن يتمنى الانسان أن تكون هنالك حلول لكل المشاكل، لكن هذا غير واقعي وبالتالي تحصل أزمات يمكن أن تكون شديدة الخطورة.
من الحلول الواقعية الممكنة في رأي بوكستابر هي الارشاد أي (استراتيجية) لا تأخذ كل المعلومات في الاعتبار لكنها تعطي نصائح منطقية للتصرف المستقبلي. الارشاد هو التصرف الممكن وليس الأفضل بالضرورة، أي واقعي جدا. في كل حال الحلول الفضلى يمكن أن تكون كذلك على المدى القريب وليس بالضرورة على المدى البعيد حيث كل الأمور معرضة للتغيير.اذا كنا نريد فعلا فهم الأزمات علينا بناء نماذج اقتصادية وإحصائية تنتجها، أي نماذج تُبنى على العلاقات بين الناس والمؤسسات كما بين المواطن وبيئته في الاتجاهين. العالم معقد بسبب اختلاف الناس والبيئة كما العقائد والتصرفات والأفضليات.
كيف يمكن تحسين التوقعات؟ عبر فهم أكبر للواقع،أي دراسة تفاصيل الأمور وليس فقط تعميم التحليل الذي يُلغي أموراً مهمة. على سبيل المثال كلنا نعرف لعبة «الليغو» الشهيرة التي وجدت في الدانمارك في سنة 1932 وتعني الكلمة «إلعب جيداً». عانت في 2003 من أزمة كبيرة خسرت خلالها 30% من مبيعاتها،أي عمليا توجهت نحو الاقفال. ظن المسؤولون أو بعضهم أن السبب هو في ضعف الطلب أي لم تعد الأجيال الجديدة ترغب في شراء هذه اللعبة القديمة والمهمة. تريد الأجيال الجديدة نتائج سريعة رقمية في التسلية ولم تعد ترغب في الألعاب التي تتطلب الكثير من العناية والعزيمة. فكَّر المسؤولون بطريقة أخرى وهي زيارة منازل من يستعمل اللعبة لفهم المشكلة بالتحديد. ذهبوا مثلا الى منزل طفل ألماني في السنة 11 من عمره وتبين لهم منه وخلال استعماله للعبة أن معلوماتهم خاطئة. لم تكن المشكلة في اللعبة نفسها بل في حجم ولون وشكل بعض القطع التي تستعمل للبناء ضمن اللعبة. فجرى تصحيح الوضع وعادت الليغو الى الازدهار. ارتفعت المبيعات 11% في سنة 2014 فتعدَّت مبلغ الملياري دولار.
المقصود هنا وتبعا للكاتب «مارتن ليندستروم» أن على الاقتصاديين عدم الاكتفاء بالنظرة الشاملة الى الأمور، بل الدخول الى التفاصيل حتى الصغيرة منها كي يفهموا كل الموضوع والعلاقات والخلل والواقع،ومن ثم يتوقعوا المستقبل. يقول أن من يريد دراسة كيف تعيش الحيوانات لا يذهب الى الحدائق في المدن، بل الى البرية والغابات حيث يرى بالعين المجردة كيف يعيشون ويتصرفون.