بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 آذار 2021 12:02ص جذور الكورونا ثقافية

حجم الخط
لم تأتِ الكورونا من لا شيء، بل حتما من سوء تصرف ثقافي واجتماعي من قبل مواطني العالم. الكورونا ليست موضوعاً صحياً فقط، بل حضاري بالدرجة الأولى نتج عن سنوات من الحياة الاقتصادية والمالية المتهورة. حقيقة، لا يعرف العالم اليوم قيادات كبيرة ذات رؤية متقدمة ومتطورة كنايريي في تانزانيا أو سوكارنو في أندونيسيا أو مانديلا في أفريقيا الجنوبية. تلك القيادات غابت، وكانت ستقوم بدور كبير نوعي في الظروف الصعبة التي نعيش فيها. للأسف لا ينعم العالم اليوم خاصة في الدول الناشئة والنامية بقيادات مماثلة مع أخلاق كبيرة وتصرفات فاضلة في الذهن والمنطق توجه الحكومات نحو الطرق الصحيحة وشاطئ الأمان.

قبل الكورونا أي حتى آخر 2019، كانت مستويات الفقر في العالم في انحدار واضح باستثناء عدد قليل من الدول الأفريقية والأسيوية التي بقيت مستويات الفقر داخلها مرتفعة بالرغم من المساعدات السخية. من هذه الدول نذكر افغانستان، غانا، كوريا الشمالية، السودان واليمن. هنالك دول أخرى خاصة في منطقتنا العربية يمكن اضافتها الى اللائحة الطويلة من 60 دولة التي تكلم عنها الاقتصادي بول كوليير Collier الخبير والأستاذ الجامعي في كتب عدة. يأسف المؤلف لتراجع هذه الدول والى عدم قابليتها للتطور بل الى براعتها في اضاعة الفرص الثمينة التي تأتي اليها. تختصر التنمية بالأمل للشعوب كي تعمل وتستهلك وتتطور، وهذا يغيب عن عدد كبير من الدول الفقيرة والمتوسطة. هنالك أسباب متعددة لتخلف الدول الستين وأكثر عن قطار التطور.

أولا: الفساد وهذا واضح في معظم الدول النامية وظاهر أيضا في لبنان على سبيل المثال وفي العديد من الدول العربية. في لبنان، هنالك اجماع شعبي على أن الفساد يقتل الفرص الكبيرة والمبادرات التي تقدم الينا. هنالك مواضيع قليلة يجمع عليها اللبنانيون أهمها الفساد العام وسؤ الادارة والهدر والسرقات كما غياب المحاسبة الموضوعية عبر القضاء.

ثانيا: التقلبات السياسية الكبيرة التي لا تسمح للاقتصاد بالنهوض والتطور لغياب الأفق الايجابي بشأن المستقبل. من يستثمر في دول تتعرض للزوال أو للسقوط الاداري والسياسي والقانوني؟ في هذه الدول تغادر الشركات وتهرب الاستثمارات ويهاجر المواطن خاصة أصحاب الكفاءات والشهادات والخبرات. في لبنان اليوم نواجه هجرة خطيرة بسبب التشاؤم وسقوط الليرة وغياب الأفق الجيد وبالتالي نخسر أهم الأطباء والممرضات والقضاة وأصحاب الشهادات العالية. هذه هجرة دائمة لمواطنين في منتصف العمر يغادرون الى دول تقدر الكفاءة وتحترم النزاهة وتنوه بالجهود والانتاج الجيد.

ثالثا: ادارة القطاع العام، اذ لا يمكن لمجتمع أن يدار بالفوضى وسوء الرؤية وانتشار الفساد. كيف يمكن لمجتمعات كهذه أن تواجه الكورونا التي تتطلب جمع كل القدرات البشرية والمادية؟ كيف يمكن لمجتمع أن يطبق نصائح الادارات العامة اذا كان لا يحترمها أو لا يثق بها وبالتالي تنتشر الكورونا؟ لا نزال نسمع في هذه المجتمعات مواطنين لا يعترفون علنا بالكورونا، ويستمرون بالتجمع والسهرات والاحتفالات وكأن الأمور عادية. الأمور خطيرة في مجتمعات تعاني ليس فقط من الشح المادي، وانما خاصة من الشح الذهني تجاه العلوم والوقائع والنصائح والتوجيهات.

هنالك في الواقع مشاكل صعبة تواجه الدول المتأخرة وتتطلب المعالجة السريعة. تكمن المشكلة أولا في أن الوقوع في التعثر ربما سهل لكن الخروج منه صعب جدا. من ناحية أخرى، لا يمكن انقاذ أي دولة عبر مساعدات الخارج فقط، بل يجب أن تأتي الحلول من الداخل أو أنها لن تأتي. في لبنان مثلا، نتكلم عن المؤامرات الخارجية ونريد الخارج أن يساعدنا ونلوم الجميع الا أنفسنا، علما أننا مدركون أن مشكلتنا فينا ولن تكون هنالك حلول صحيحة الا من الداخل وبتعاون الجميع. في مجموعة الدول المتعثرة، هنالك تحديات تأتي أقله من مصادر أربعة وهي الحروب الداخلية أو الموارد الطبيعية التي يحاول الخارج استغلالها بالتعاون مع الداخل أو بعضه. هنالك أحيانا الجوار السيء الذي يستغل أو يهدد أو يحاول الابتزاز حتى لا نقول الاحتلال أحيانا وهنالك طبعا سؤ ادارة الدولة واستغلال المواطن وسرقته مما يبقيه فقيرا معوزا لا يتكلم ويطالب بحقوقه.

الحلول لهذه المآزق المختلفة معروفة، لكن التطبيق دائما صعب بسبب الفساد وسؤ الرؤية وغياب روح المسؤولية كما المحاسبة:

أولا: في الموضوع الاقتصادي، لا بد من الانفتاح التجاري والمالي اذ لا يمكن النهوض مع الاغلاق وهذا ما تعرفه دول عدة في مقدمها كوريا الشمالية. لا بد من تنويع الصادرات لمواجهة المخاطر. لا بد من الانفتاح لتشجيع الاستثمارات مع تأمين البنية التحتية الدنيا وهذا ما تعجز عنه دول عدة كلبنان حيث مشكلة الكهرباء أصبحت مضرب مثل عالمي للفشل وسوء الاداء. لا يمكن اليوم لأي دولة أن تنجح من دون اتفاقيات واضحة تكون لصالح جميع الموقعين. حتى الولايات المتحدة توقع اتفاقيات تجارية ومالية مع العديد من الدول القريبة والبعيدة، فكيف اذا لدولنا الصغيرة والضعيفة.

ثانيا: الموضوع الاداري حيث الغنى المادي العام يهدر، وبالتالي يجب ضبط الأمور عبر تسليم أصحاب الكفاءة ادارة هذه الموارد من طاقة ومعادن وغيرها. هنالك ضرورة لحسن استثمار ايرادات الموارد الطبيعية أي أموال النفط والمعادن عبر خلق صندوق استثماري. نجحت النروج والكويت وغيرهما في ادارة ثرواتها في زمن البحبوحة تحضيرا لمراحل أكثر دقة وصعوبة.

ثالثا: الاصلاح القانوني أكثر من ضروري، والا حصلت شريعة الغاب والفوضى والسرقة. هنالك ضرورة دائمة لتطوير قوانين تحترم استخراج الثروات والأصول الطبيعية كما الحريات والديموقراطية. الثروة الطبيعية هي في غاية الأهمية لنهوض الدول الفقيرة. لا بد من شفافية في الأمور المالية العامة بحيث تقر موازنات تعالج الأوضاع وتعطي أرقام واقعية يتم الالتزام بها.

كل هذه النصائح مفيدة ولا بد من تنفيزها، لكن الأهم يبقى الدور الداخلي أي دور المواطن في الانقاذ. اذا لم يقترع المواطن في كل الانتخابات واذا لم يطالب بحقوقه بشتى الوسائل الممكنة، فلن يحصل الانقاذ وستبقى الأوضاع سيئة. مطالبة المواطن بحقوقه دليل على الحيوية وعلى الرغبة في التغيير لأنه متضايق من أوضاع اليوم ويريد الأفضل. من ناحية الكورونا، القضاء عليها وربما عدم عودتها بأشكال أخرى يتطلب تغيير نمط الحياة أو قواعدها بحيث تصبح صديقة أكثر للطبيعة وللبيئة. التغييرات التي نواجهها في مجتمعات اليوم على صعيد الدول المنفردة كما على صعيد العالم ككل ليست سهلة، وستأخذ الوقت الطويل لكن لا بد منها للانقاذ الحقيقي الدائم.