بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 آب 2020 07:14ص حزب الله ومواجهة الحقيقة والعدالة

حجم الخط
بعد سماعي ومشاهدتي لمجريات الجلسة الأولى للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان اكتب هذه الافتتاحية بعد ان تلا رئيس المحكمة وعضواها القسم الأول من الحكم والذي يتضمن جميع وقائع تنفيذ الجريمة، بما في ذلك الاستناد إلى شبكات الاتصال التي استعملها المنفذون والمخططون في تحضيرهم وتنفيذهم لجريمتهم، أجد انه لا بدّ ان اقف امام مجموعة من الملاحظات:

الأولى: يُشكّل هذا الحكم محطة رئيسية في تاريخ الجرائم السياسية العديدة التي شهدها لبنان منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى اليوم. وكان اللافت عجز الأجهزة الأمنية والقضائية عن كشف المخططين والمنفذين لهذه الجرائم واحضارهم امام العدالة، وذلك بالرغم من أهمية  مواقع الضحايا بين كبار المسؤولين ومن بينهم رئيسين للجمهورية ورئيسين للحكومة ونواب ووزراء ورؤساء روحانيين للطوائف اللبنانية الرئيسية.

الثانية: صدر الحكم القضائي الدولي بحق أربعة لبنانيين ينتسبون لحزب الله، وهم قياديون ومسؤولون في تنظيم الحزب الأمني والعسكري، وبالرغم من عدم تعرض الحكم إلى مسؤولية الحزب في عملية الاغتيال فإن هوية المحكومين ومواقعهم في هيكلية الحزب تؤشر إلى المسؤولية السياسية والاخلاقية لقيادة الحزب عن جريمة الاغتيال للرئيس رفيق الحريري، وما نتج عنها من ضحايا واضرار. وفي هذا السياق اذكر انني قد اجبت عن سؤال طرحه علي المحامي زياد بارود أثناء مقابلة عبر محطة التلفزيون البريطانية (B.B.C)، في الوقت الذي كانت تجري فيه التحقيقات في الاغتيال، وقد أجبته في حينه: بأن العدالة تتحقق حين صدور قرار يُحدّد هوية الفاعلين وانتماءهم السياسي، وذلك لأن المهم في الأمر تحديد المسؤولية المعنوية والاخلاقية للفاعلين، وليس اقتيادهم إلى السجن كما يجري في الجرائم العادية.

الثالثة: يرفع الحكم الدولي، حتى إذا لم يجر تسليم المنفذين للجريمة للعدالة كما وعد السيّد حسن نصر الله الأسبوع الماضي، خيمة واقية فوق رؤوس جميع اللبنانيين، حيث انه يوجه رسالة واضحة للمتآمرين لتنفيذ جرائم مماثلة بانهم لا يمكن ان يفلتوا من يد العدالة الدولية، كما يُشجّع المجتمع المدني اللبناني لزيادة الضغوط ورفع الصوت للمطالبة باستقلال القضاء والأمن اللبناني للقيام بواجباته الكاملة في متابعة الجرائم ومحاكمة القتلة والمجرمين.

الرابعة: اللافت ان هذا الحكم الدولي يتلازم مع المطالبات الحثيثة من قبل أحزاب سياسية أساسية، بالإضافة إلى قيادات المجتمع المدني والثورة بطلب تكليف لجنة تحقيق دولية للتحقيق في جريمة تفجير العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، والتي يمكن اعتبارها جريمة متمادية وضد الإنسانية، وذلك نظراً لحجم الخسائر المادية وبالارواح التي أصابت الجزء الأكبر من مدينة بيروت. لا تتوافر لدى معظم اللبنانيين الثقة بالسلطتين السياسية والقضائية وبقدرتهما في الكشف عن هوية مالك نيترات الامونيوم أو الأفعال التي أدّت للانفجار وبالتالي الكشف عن هوية المسؤولين عن هذه الجريمة الكبيرة.

الخامسة: لا بدّ ان يُدرك اللبنانيون حقيقة ان زمن ارتكاب الجرائم الكبرى بدون عقاب قد ولّى، ولا بدّ من كشف المجرمين وملاحقتهم، وكشف الجهات التي تقف وراءهم، وتحميلها المسؤولية السياسية والوطنية والاخلاقية عن الجريمة ونتائجها ولا بدّ ان يدركوا أيضاً بأن هذه الجريمة لم تستهدف شخص الحريري فقط، ولكنها استهدفت مشروعاً سياسياً واقتصادياً، كان يسعى الحريري إلى تحقيقه. وهكذا ضاعت تلك الفرصة لقيام الوطن وازدهاره واستعادة سيادته، وذلك بهدف خدمة مخطط خارجي للهيمنة على لبنان.

السادسة: يبدو بوضوح بأن اولياء الدم لا يريدون الثأر، ولا يسعون إلى توتير مشاعر الشارع السني ووضعه في مواجهة جمهور حزب الله، وبالتالي فتح الباب امام فتنة شيعية - سنية، ويفترض هذا الأمر ان يتحلى موقف حزب الله بالحكمة، وبالتالي وقف رفع السقف في أية تعليقات تصدرها قيادات الحزب حول مضمون الحكم أو آليات تنفيذه. ويقضي الواجب بالتزام الصمت حوله وترك الأمر للزمن والظروف الملائمة لحل كل الذيول التي خلفتها الجريمة. اللافت في الأمر بأن هذا الحكم يأتي في وقت يواجه فيه حزب الله شتى أنواع الضغوط داخلياً وعربياً ودولياً وأبرزها:

1- الشبهات التي تدور حول امتلاكه لكميات نيترات الامونيوم التي انفجرت في مرفأ بيروت، وهو الأمر الذي حاول دون اتخاذ السلطات اللبنانية العليا القرار بنقلها أو التخلص منها. ويبدو وفقاً للمعلومات المحققة بأن الحزب كان يستعمل بعض عنابر المرفأ لخزن ذخائر ومواد متفجرة، وبحيث يمنع على العاملين في المرفأ الاقتراب منها. هذه الشبهات بالذات هي التي دفعت عددا من الأحزاب والمجتمع المدني والثورة للمطالبة بلجنة تحقيق دولية، خوفاً من طمس الحقائق وتضييع المسؤولية عن نتائج النكبة التي حلت ببيروت وأهلها.

2- توسع التأييد الداخلي للمبادرة التي أطلقها البطريرك بشارة بطرس الراعي والداعية إلى فك الحصار عن الشرعية وتحرير القرار الوطني من الضوابط والالتزامات التي يفرضها عليه حزب الله، والذي تحول إلى مطلب يقضي بالحياد الإيجابي المعترف به دولياً. ويبدو بوضوح بأن هذه المبادرة قد حظيت بتأييد الرئيس الفرنسي ماكرون أبان زيارته لبيروت، كما انها تلقى تشجيعاً ودعماً اميركياً، وهذا ما يفسّر إصدار مذكرة من الديمان تحوّل المبادرة إلى مشروع وطني ودولي له منافعه السياسية والاقتصادية والأمنية على المستوى الداخلي، وله دوره في تحقيق الاستقرار على المستويين العربي والدولي، وبما يفتح الباب لحصولها على مزيد من التأييد وتحويلها إلى قرار دولي جديد يطالب بتحييد لبنان وتوسيع مهام قوات الطوارئ الدولية، وصولاً إلى الحدود الشرقية والعاصمة بيروت.

3- في نفس الوقت تستمر العقوبات الدولية والعربية الساعية إلى محاصرة حزب الله وتداخلاته في أزمات المنطقة، وهي مرشحة لتشهد المزيد من التشديد، حيث تُشير المعلومات الى أن الإدارة الأميركية تعد لائحة عقوبات جديدة تتضمن شخصيات سياسية ومالية داعمة لحزب الله. ستؤدي الضغوط المشددة والمعممة على الحلفاء إلى تراجع التأييد الواسع الذي كان يؤمنه له التيار الوطني الحر وقوى سياسية أخرى.

في نفس الوقت يبدو أن التهديدات والضغوط الإسرائيلية ضد الحزب سواء في سوريا او لبنان سيكون لها مفاعيلها على قرار الحزب واستعماله لعامل الردع في مواجهة التهديدات الإسرائيلية، وهذا سيدفعه حتماً إلى اعتماد سلوكيات جديدة، بحيث يستمر في الاستفادة من مظلة الشرعية اللبنانية لتجنب الدخول في حرب مدمرة مع إسرائيل، انطلاقاً من حسابات مغلوطة أو انطلاقاً من حسابات إسرائيلية بأن وقت الاقتصاص منه قد حان.

في النهاية سيزيد صدور حكم المحكمة الدولية من تعقيدات الأزمات الأخرى التي يواجهها لبنان، وستزيد من أجواء الشكوك والغموض التي تُخيم على الأوضاع السياسية الناتجة عن استقالة الحكومة واستمرار الثورة المطالبة بالتغيير بدءاً من الدعوة لانتخابات مبكرة ومحاكمة الطبقة السياسية الفاسدة، في وقت لا يبدو فيه أي أمل في التوصّل إلى تشكيل حكومة مستقلة وقادرة على الإصلاح من خلال تمتعها بصلاحيات استثنائية وتخولها إصدار القوانين اللازمة بمراسيم اشتراعية.

لكن يبقى السؤال الملح: كيف سيواجه حزب الله كل هذه الضغوط؟ هل سيواجهها بالهروب إلى الامام وافتعال احداث تخلط كل الأوراق، أم سيواجهها بالتراجع إلى الوراء واجراء تقييم عقلاني يدفعه إلى تغيير سلوكياته السابقة، والانخراط فعلياً في المشروع السياسي الوطني؟