بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 آب 2021 08:10ص دروس عراقية من أجل لبنان

حجم الخط
شكّل مؤتمر العراق ودول الجوار الذي استضافته بغداد في الثامن والعشرين من الشهر الجاري إعلاناً لأكثر من حقيقة سياسية سترافق مسيرة نهوض العراق الجديد.لقد عبّرت المشاركات الإقليمية والدولية عن وضوح في الأسّس التي ستبنى عليها العلاقات الدولية مع بغداد وأهمّها الثقة بالحكومة العراقية التي تمتع رئيسها بجرأة أدبية وشجاعة موصوفة في مقاربة الدروس المستفادة من التجربة العراقية ورسم ثوابت السياسات الخارجية والوطنية.

لا يمكن إلا التوقف عند رفض رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي لاستخدام الأراضي العراقية كساحة للصراعات الإقليمية والدولية أو منطلقٍ للإعتداء على جيران العراق، وعند تحديده الأسباب التي أدت إلى الإنهيار الإقتصادي والأمني والتي اختصرها بالإرهاب والسلاح المتفلت والحروب، بحضور دولٍ معنية شاركت في صياغة فصولٍ سوداء من تاريخ دموي طال العراقيين بوحدتهم وهويتهم الوطنية وعروبتهم وهدّد مستقبلهم. مقاربة الكاظمي لم تقتصر على توصيف الأزمة العراقية ومسار الخروج منها بمعزلٍ عن الدروس التي تمليها حقائق الجيوبولتيك، حيث يقدّم لنا التاريخ المعاصر في القرنين التاسع عشر والعشرين شواهد وعِبر لهزائم مشهودة مُني بها متجاهلو تلك الحقائق، أو أبطال شاؤوا القفز فوقها عبر التاريخ وكانت السبب في أفولهم عن مسرح التاريخ. لقد أثبتت التجربة أنّ الإستناد في بناء الدول إلىلاهوت سياسي متمثّل باللغة والدين والتاريخ والعرق دون الإقرار بقيم الدولة الحديثة ومنها المساواة وقضية العدالة الإجتماعية لن تؤدي إلى الفشل في بناء ديمقراطيات حقيقية فحسب، بل إلى تصدّع الكليشيهات والشعارات التي قدّمت للناس،والى إحياء التميز الديني لخدمة التميّز القومي، او إعادةإنتاج الدين كقضية هوية وليس كقضية عقيدة.

قطع مصطفى الكاظمي الشك باليقين عندما أعلن أنّ لا عودة إلى الماضي وإلى الحروب العبثيّة بل إلى بغداد السلام والعروبة والتاريخ والثقافة، مقدّماً القيم الجديدة للدولة العراقية المنشودة التي تقوم على ثقافة الحوار والشراكات والتنميّة الإقتصادية والبشرية ومستلهماً أُسّس التسامح والأخوّة والإنسانية من اللقاء الذي جمع المرجع الشيعي الأعلىآيّة الله علي السيستاني بالحبر الأعظم البابا فرنسيس في مارس من العام الحالي في مدينة النجف جنوبي بغداد.
على الضفة الأخرى لمؤتمر بغداد بدا أنّ طهران تلقفت على مضض الترتيبات التي رافقت المؤتمر والمخرجات التي صدرت عنه دون امتلاك القدرة على المقاطعة أو على إحداث أي تغيير يستطيع كبح التصميم العراقي على استعادة دوره كأحد ركائز الإستقرار في المنطقة. ممثّل الجمهورية الإسلامية وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان الذي استهل زيارته لبغداد بزيارة الموقع الذي قُتل فيه قائد فيلق القدس قاسم سليماني حيث كانت السلطات العراقية قد أزالت جداريّة كبيرة لسليماني وأبو مهدي المهندس، عبّر بشكلٍ واضحٍ عن استيائه لعدم دعوة سوريا باعتبارها جارة مهمة للعراق مؤكّداً أنّ طهران ستتشاور مع دمشق حول نتائج المؤتمر وقد انتقل إليها بعد المؤتمر مباشرةً.

تستكمل قمّة بغداد مساراً إعتمده الكاظمي منذ توليه رئاسة الحكومة في مايو/أيار 2020، طغت عليه بوادر الرغبة بالإنفتاح على المحيط العربي والدولي. الزيارات العربية للمملكة العربية السعودية والمشاركة في القمّة الثلاثية التي جمعته بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في بغداد في فبراير/شباط الماضي، وزيارة الولايات المتّحدة ودول الإتّحاد الأوروبي،أكّدت نهج الكاظمي في تحرير السياسة الخارجية من التحالفات المذهبية والإنطلاق بها نحو الفضاء الوطني والدولي وعودة بغداد شيئاً فشيئاً إلى موقعها الدولي بعد أن عانت العزلة طيلة السنوات الماضية.

وفيما يستخلص الحكم الرشيد في العراق قيم الحوار والسلام والإنفتاح والتسامح ويبني على تجربته المحدودة في إدارة التعدّدية ثوابت إقامة الدولة العادلة والديمقراطية المنفتحة، ينأى لبنان أكثر فأكثر عن القيم الإنسانية والحضارية التي هي السبب الأساس لوجوده واستمراره. يعلن الكاظمي أمام الملأ دعوة المجتمع الدولي لمراقبة عملية تكوين السلطة من خلال إنتخابات تشريعية مبكرة تجري في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، كخيار شعبي ضاغط لاختيار طبقة حكومية جديدة تتمثّل فيها إرادة الناخب وتضمن التمثيل العادل لأغلب القوى المشاركة، ويتهرّب الساسة في لبنان من أي إستحقاق دستوري بل يمعنون أكثر فأكثر في الإعتداء على الدستور والعودة بلبنان أدراجاً نحو حقوق الطوائف وهيمنة المذاهب على الحياة العامة.

في وعي بغداد لدورها الجديد وانتمائها واحترامها لتاريخها وتعدّديتها دروسٌ عراقية من أجل لبنان.

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات
Twitter: @KMHamade