بيروت - لبنان

اخر الأخبار

29 كانون الأول 2021 08:13ص رئاسة إطلاق الشعارات كبديل للأفعال

حجم الخط
في عام 1978 صدر كتاب مهم في علم الاجتماع بعنوان «العقل العربي» للكاتب الصهيوني الشهير رافاييل باتايي. ووجدت بعد قراءتي للكتاب بأن أبلغ توصيف قدمه الكاتب للعقل العربي يتركز في قوله «في العقل العربي، غالباً ما تستعمل الأقوال كبديل للافعال». وانطلاقاً من معرفتي الطويلة بالعماد ميشال، والتي تقارب 64 سنة، أي من أيام الدراسة في الكلية الحربية إلى اليوم، فإني أرى في عقله تمثيلاً دقيقاً للتوصيف الذي خرج فيه باتايي. ولست بحاجة الآن لاسترجاع مختلف المحطات في حياة ميشال عون التي تؤكد مدى صحة هذا التوصيف لكل المقاربات التي اعتمدها في المحطات الهامة من حياته العسكرية والسياسية، وذلك بدءاً من عام 1975 وحتى يومنا الحاضر.

درج العماد عون في كل محطات حياته العسكرية والسياسية على إطلاق الشعارات الكبيرة للتعبير عن طموحاته ومقارباته الشخصية والعسكرية والوطنية، والتي لم ينجح في تحقيق أي منها، في الوقت الذي سعى فيه إلى استعمال أقصر الطرق واسهل الوصفات التطبيعية لتحقيق طموحاته الشخصية، كضابط، وكقائد للجيش، وكرئيس لحكومة انتقالية، ومن ثم في طريق العودة إلى لبنان للتسلق إلى موقع رئاسة الجمهورية. وللأسف الشديد لم تتحقق أي من المشاريع الطموحة التي حملها عون لخطابه في مختلف مراحل حياته في العمل الوطني على الصعيدين العسكري والسياسي. وكان ينتهي دائماً إلى تحميل الظروف والخصوم مسؤولية فشل وسقوط مشاريعه، وعلى غرار ما فعله في خطابه الأخير.

بدا الرئيس عون محرجاً وهو يستمع إلى خطبة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي يوم الميلاد، والتي حملها مختلف معاني الانتقاد والشجب للمنظومة الحاكمة الحالية، التي يرأسها العماد عون نفسه منذ أكثر من خمس سنوات، وذلك من خلال قوله «لا إصلاح ولا إنقاذ ولا معالجات منتظرة من المنظومة وبالتالي لا بدّ من سياسيين جدد يستطعيون العمل على إخراج البلد من دوّامة الأزمات المتفاقمة».

وجاء ردّ العماد عون على هذه الإدانة الصريحة للمنظومة السياسية الراهنة في ظل «العهد القوي» لانتظار الخطاب الذي سيدلي به يوم الاثنين. وهنا بدأت التخمينات وتضاربت التوقعات حول المستجدات التي سيحمّلها لخطابه، بعد هذا المسلسل الطويل من خيبات الأمل من الوعود بالتغيير والإصلاح، والتي حملها مع تياره السياسي منذ عودته من فرنسا عام 2005، وخصوصاً بعد صعوده لموقع رئاسة الجمهورية في عام 2016.

جاء الخطاب الجديد، حيث ابقى القديم على قدمه، وحالة اللاواقعية السياسية في خطاب الرئيس عون وتياره السياسي على حالها، وخصوصاً لجهة تحميل القوى السياسية الأخرى مسؤولية تعثر الدولة ومسيرة الإصلاح، بالإضافة إلى فشل جميع مؤسسات الدولة الدستورية والقضائية والمالية والرقابية في تحمل مسؤولياتها. فالجميع يتحملون مسؤولية الفشل والتقصير والذي أدى إلى الانهيار الكبير للسلطة والدولة.

اما في المضمون، فيمكن القول بأن هذا الخطاب كان أولى به ان يكون بداية «العهد القوي» وليس خطاب السنة الأخيرة من عهد اتصف بالفشل والانهيارات المتتالية. وكان اللافت الطريقة التي استقبلت فيها وسائل الإعلام الخطاب فور انتهاء الرئيس من تلاوته، حيث استعادت مختلف المحطات السياسية (بالصوت والصورة) للرئيس عون قبل انتخابه عندما درج على إعلان مواقف واتخاذ خطوات سلبية، أدّت إلى اضعاف سلطة الدولة وتعطيل مسيرتها السياسية والاقتصادية والإدارية، سواء لجهة إسقاط حكومة الحريري عندما كان في زيارة رسمية للرئيس الأميركي أو لجهة تأخير تشكيل الحكومات لأشهر طويلة، أو لجهة منع انتخاب رئيس للجمهورية لفترة سنتين ونصف، أو لجهة تعطيل الاقتصاد بالمشاركة مع حزب الله في احتلال الوسط التجاري لمدينة بيروت لفترة سنتين.

لا بدّ أيضاً من تذكير العماد عون من التداعيات التي ترتبت على توقيعه لتفاهم مار مخايل مع حزب الله، والذي أعطى الغطاء المسيحي لمسار حزب الله للسيطرة على الدولة، وللانطلاق نحو توسيع عملياته العسكرية لتشمل عدّة دول عربية شملت سوريا، والعراق، والدول الخليجية وصولاً إلى اليمن، ومن أجل ذر الرماد في العيون فقد غطى عون شخصياً دور حزب الله، من خلال الحديث عن دوره في حماية لبنان من الإرهاب السلفي، ومن خلال الحديث عن قوته كمقاومة «لا يملك لبنان بديلاً عنها في المواجهة مع إسرائيل».

قد يكون واهماً كل من يعتقد بقدرة الرئيس عون على تصحيح مسيرة العهد من أجل إنقاذ ما يمكن انقاذه قبل «خراب البصرة» بشكل كامل، وهذا ما أكدته الطروحات التي قدّمها في خطابه الأخير، حيث دعا لحوار وطني عاجل للتفاهم واقرار ثلاث مسائل، بعيدة كل البعد عن المسائل الملحة التي بات النّاس بأمس الحاجة لتحقيقها، وهي: أولاً، اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، وثانياً الاستراتيجية الدفاعية لحماية لبنان. وثالثاً خطة التعافي المالي والاقتصادي، بما فيها الإصلاحات اللازمة وتوزيع الخسائر. في رأينا وبالرغم من ان هذه المسائل تشكّل أولويات في العملية الإصلاحية الشاملة، والتي كان من واجب الرئيس طرحها والعمل على تنفيذها منذ السنة الأولى لعهده، الا ان ما يهم النّاس الآن وقف عملية الانهيار الجاري، والتي عممت الفقر على معظم طبقات المجتمع، والتي يأتي في طليعتها، انطلاق اجتماعات مجلس الوزراء وتفكيك كل القيود المانعة لعملية صنع القرار الوطني، والتي تضطلع بها الثنائية الشيعية، وبالأخص حزب الله الحليف الأساسي للرئيس وتياره السياسي. ويأتي تعطيل مجلس الوزراء في سياق ونتيجة مطلب الثنائي الشيعي لتعطيل التحقيق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وبالتالي تعطيل القضاء. ولا يمكن القفز على أهمية معالجة الشأن المعيشي، والتي يرتبط فيها تفلت سعر صرف الدولار، والقضايا المعيشية في ظل تفلت التجار من كل الضوابط ويبقى المفتاح الأساسي لمعالجة هذه القضايا الملحة والمحرجة في تأمين انعقاد جلسات مجلس الوزراء، والتي يعتمدها الحليف الأوّل للعهد، حيث ترتبط بانعقادها مسألة تأمين اعتماد الخطة الإصلاحية وانطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وبالتالي فتح نافذة الأمل بتدفق الأموال والقروض اللازمة لوقف الانهيار المتواصل منذ 17 تشرين أوّل 2019.

كان على الرئيس عون بدل الدعوة لحوار وحسب، قد لا يؤدي إلى أية إصلاحات أو توافقات وفق ما خبرناه سواء من تجربة الحوار التي دعا إليها الرئيس برّي أو تجربة الحوار في بعبدا التي دعا إليها الرئيس سليمان، والتي أفضت إلى إقرار إعلان بعبدا لحياد لبنان، والتي اسقطها حزب الله بخروجه منها. فالحوار الوطني لن يكون مجدياً في التصدّي لعناصر الأزمة المصيرية التي يواجهها لبنان. ولكنه يأتي كالعادة من بين الشعارات الكبرى والتي اعتاد الرئيس عون على اعتمادها كوسيلة لتغطية القصور في أداء العهد، مع الحرص على الاحتفاظ بالمصالح التي يحققها تياره السياسي من خلال الحفاظ على تحالفه السياسي مع حزب الله سواء في الانتخابات النيابية المقبلة أو لجهة تأمين دعم الحزب لترشيح جبران باسيل لرئاسة الجمهورية، تأميناً لاستمرارية نهج العهد الفاشل في حكم لبنان .

وفي النهاية لا بدّ من تذكير الرئيس عون بأن الفشل الحاصل في إدارة شؤون البلاد لم يأتِ نتيجة نقص في صلاحيات الرئيس على حدّ زعمه، في كل مرّة يتحدث فيها إلى اللبنانيين، فالدستور واضح في التوازنات السياسية التي أرساها اتفاق الطائف، والذي كان من المفترض تنفيذه وصولاً إلى الدولة المدنية العلمانية.

في رأينا يرتبط فشل العهد في منع حصول الأزمة، أو في تدارك نتائجها في سببين رئيسيين: الأوّل، سياسة التعطيل التي اعتمدها الرئيس وتياره السياسي، والتي وضعت العهد في حالة تناقض كلي مع رئاسة مجلس النواب، ومع رؤساء الحكومات المتعاقبين، والثاني، التزام التيار ببنود وتفاهم مار مخايل، وبالتالي إطلاق يد حزب الله في اعتماد سياسات داخلية للهيمنة على الدولة ومؤسساتها، والسكوت عن تدخلاته الخارجية في عدد من الدول العربية، ومن بينها سوريا واليمن، والتي أدّت إلى اتهامه من قبل معظم الدول العربية والدول الكبرى بالارهاب، وبالتالي تحميل الدولة اللبنانية مسؤولية نتيجة أعماله المهددة للأمن العربي.

ويبقى السؤال الأكثر إحرجاً: هل يُدرك الرئيس عون مدى خطورة الاستمرار في التغطية على هيمنة حزب الله على مفاصل الدولة، والتي ستؤدي في نهاية المطاف إلى تصنيف لبنان دولة فاشلة على المستويين العربي والدولي؟

ان ما سمعناه في الخطاب الأخير للرئيس عون لا يبشر بحدوث أي تطوّر يوقف الانهيار المالي والمعيشي، بل يُشكّل استمراراً لتكرار الكلمات والوعود، والتي درج على استعمالها كبديل لأي فعل من أفعال الإصلاح والتغيير. ولا بدّ في النهاية من فقدان الأمل بأية معالجة مع اشراف العهد على نهايته، مع وجوب دعوة صريحة للبنانيين للتجاوب مع دعوة البطريرك الراعي للتصويت لتغيير المنظومة الحاكمة في الانتخابات المقبلة.