عرف لبنان محطات عديدة شديدة الغموض والالتباس كالتي نعيشها الان من اختلال بالتوازنات الداخلية وتعاظم بالتداخلات الاقليمية والدولية وتجميع عناصر القوة خارج السلطة، وهذا ما شاهدناه في انتخابات هيئة مكتب المجلس النيابي الجديد حيث كانت القاعة شديدة التفلت والضياع والخفة وعدم الاتزان، مما جعلنا نشعر بالقلق الشديد مما هو آت في الايام والاسابيع القادمة، وهذا القلق يعرفه كل الذين تجرعوا مرارته مرات ومرات، ان عبر الاغتيالات السياسية او العمليات الامنية او الحروب الاقليمية او النزاعات الطائفية.
احداث ١٣ نيسان ٧٥ كانت مسبوقة بحكومة تجاوزت التوازنات والاعراف والاستخفاف بالقوة الذاتية غير المتوازنة مع وجود السلاح الفلسطيني خارج الدولة، مما ادى الى عدم قدرة الحكومة على استخدام قانون الطوارىء وتكليف الجيش بمحاصرة واستيعاب تداعيات ١٣ نيسان قبل ان تحدث انشطاراً سياسياً وامنياً ومجتمعياً اخذ لبنان الى حرب اهلية طويلة ومدمرة انتهت مع الاجتياح الاسرئيلى عام ٨٢ ، والذي استبق ايضا بواقع سياسي يشبه ما نحن عليه من تفلت وضياع حيث كانت المخيمات الفلسطينية تتظاهر رافضة لوقف اطلاق النار نتيجة اتفاق ابو عمار مع فيليب حبيب، حيث كانت الحدود الجنوبية عشية الاجتياح تنعم بالهدوء التام في حين كان اللبنانيين يتوقعون الحرب والاحتلال وقبل اسابيع من الانتخابات الرئاسية.
غادر رفيق الحريري ظهر 14 شباط ٢٠٠٥ جلسة المجلس النيابي حول قانون الانتخابات وتوجه إلى مقهى (إتوال) قبل أن يمضي لملاقاة مصيره المخيف والشديد الإنشطار في الوعي والوجدان، والذي تطلب سبعة عشرة عاما من النكبات لاستكمال اقتلاع رفيق الحريري من البرلمان عبر إنتخابات 2022، وما شاهدناه خلال الجلسة النيابية من تجاوز لواقع ما بعد 14 شباط 2005 واستلشاء غير مطمئن لجهة واقع لبنان ما بعد تحولات اوكرانيا في 24 شباط 2022 حيث تسعى دول المنطقة الى بلورة نظام إقليمي جديد ودقيق من المصالحات والتحالفات والخصومات .
الظروف التي سبقت اغتيال رفيق الحريري من حيث الالتباس والغموض والتفكك السياسي تشبه الظروف التي سبقت معظم اغتيالات الاسماء الكبيرة التي شكل اغتيالها تغييرا في المعادلات الداخلية والاقليمية، والمؤسف ان التغيير في لبنان كان مرتبطا دائما بالاغتيالات، والتي كانت نتائجها كارثية على لبنان وعلى الذين اعتقدوا بانهم ربحوا باغتيال شخصيات كانت قادرة على حماية التوازنات الوطنية .
الثلاثاء في ٣١ ايار ٢٠٢٢ كان المشهد مهيبا وصادما ونحن نشاهد خروج رفيق الحريري من البرلمان ولم يجد مقهى (إتوال)، والمباني المحيطة هجرها السكان والرواد ولم يبق في ساحة النجمة سوى طيور الحمام التي كان قد استقدمها قبل سنوات بعد ان عم السلام في قلب بيروت عاصمة كل لبنان، خرج رفيق الحريري من البرلمان ليبقى في الوجدان لدى شريحة كبيرة من ابناء المدن والأرياف من كل الفئات والطبقات، لانه جسد حق الفقراء والاغنياء بالعلم والثروة والسلطة، واستطاع بناء جسور الثقة بين المركز والاطراف ولم يكن شريكا في هدر الدماء والدمار والتهجير وتقطع الاوصال، واستطاع رفيق الحريري احتواء تداعيات الحرب الاهلية وعسكرة المجتمعات، فأخذ البنادق من ايدي آلاف الشبان وحملهم الى اعرق الجامعات، وفتح الطرقات وازال الحواجز والمتاريس واستوعب الهيمنة والاستقواء والوصايات، وشق طرق الكرامة وفرش الملاعب لتوحيد الصلاة، وأصر ان تبدأ ورشة اعادة البناء من اعمار المدينة الرياضية كأول هدف دمرته اسرائيل في ٤ حزيران ١٩٨٢، وبعد اربعين عاما على الاجتياح والاحتلال وما بينهما وفي ٣١ ايار ٢٠٢٢ أُخرج رفيق الحريري من البرلمان ليبقى بالوجدان، وخارج البرلمان، وحفظ الله لبنان؟؟؟.