لأميركا سلاحان قويان هما الجيش والدولار. من الممكن أن يكون للولايات المتحدة الجيش الأعظم في العالم، لكن الدولار هو دون شك سلاحها الأقوى. هنالك خوف أميركي وربما غربي من أن تخسر أميركا شيئا فشيئا قوتها النقدية، وبالتالي يخف وهج الدولار كسلاح فاعل في وجه «الأعداء». بعد حوالي 80 سنة من السيطرة الكاملة على الأسواق النقدية العالمية، أميركا قلقة من امكانية خسارتها للدولار كاحتياطي نقدي عالمي أساسي. استعمال الدولار كسلاح للعقوبات، يدفع العديد من الدول والمؤسسات الى التفتيش عن نقد آخر للتنويع وليس للاستبدال، علما أن المنافسة لهذه الغاية ليست قوية. هنالك عمليا نقدان يمكن أن ينافسا الدولار هما اليورو واليوان الصيني. فهل لهما أي أمل في ازاحة الدولار عن عرش النقد العالمي؟
يقدر مجموع الاحتياطي النقدي العالمي بـ 12,8 ألف مليار دولار، 60% منه بالدولار الأميركي. معظم سندات الخزينة المتداولة في الأسواق هي بالدولار. أسواق السندات شفافة وفاعلة وبالتالي تساهم في ابقاء الفوائد منخفضة. لا أحد ينكر جاذبية سندات الخزينة الصادرة عن وزارة المال الأميركية والتي تدل على ثقة عالمية عالية جدا. ما يميز الولايات المتحدة عن غيرها من الدول أنها تستطيع الاقتراض عالميا ومن أي مكان عبر نقدها، وهذا يعطيها قوة فريدة تصعب مواجهتها. هذا يعني ان تدني قيمة الدولار في الأسواق لا يؤذي الولايات المتحدة، اذ تتدنى معها قيمة دينها العام وبالتالي تحافظ الولايات المتحدة على توازنها المالي. هذا يميز أيضا قطاع الأعمال الأميركي الذي يقوم بكافة أعماله من بيع واقتراض واقراض واستدانة وغيرها بالدولار، أي لا يتكلف أي عمولات تحويل نقدية.
يمكن لوزارة المال أن توقف عبر عقوباتها استعمال الدولار تماما كما حصل ضد روسيا عندما جمدت حوالي 630 مليار دولار من الاحتياطي النقدي مما ساهم في اسقاط الروبل واجبار المركزي الروسي على رفع الفوائد من 9,5% الى 20% وثم تخفيضها لاحقا. هنالك دول أخرى واجهت المصير نفسه من كوبا الى كوريا الشمالية وايران وفنزويلا وغيرها. لأن هذه القوة الفائضة يمكن أن تكون مؤذية للدول والمؤسسات المعاقبة، بالاضافة الى الحروب التجارية الدورية القائمة خاصة مع الصين، هنالك محاولات جدية اليوم لتنويع الاحتياطي النقدي. يحصل التنويع من الدولار باتجاه عملات أخرى كاليورو أو اليوان أو الليرة الاسترلينية أو الين الياباني أو غيرها. هذا يخلق، اذا تم، مشكلة للدولار كسلاح قوي فاعل في يد الدولة الأميركية. واقعا، تشير ارقام صندوق النقد الدولي الى أن حصة الدولار من الاحتياطي النقدي العالمي تنخفض منذ سنتين كما أن حصة اليوان الصيني ترتفع.
ماذا تقول الاحصائيات؟ حصة الدولار من الاحتياطي النقدي العالمي انخفضت من 73% في سنة 2001 الى 59% في 2021. أما التغيرات التي حصلت في السنوات الأربع الأخيرة، فتشير الى تبدل مستقبلي محتمل في الحصص النقدية. منذ 4 سنوات ارتفع الاحتياطي العالمي بالدولار 40%، باليورو 23% وباليوان 10%. كما أن توزع 650 مليار دولار جديدة من حقوق السحب الخاصة SDR على العملات، فكان 42% بالدولار، 31% باليورو، 11% باليوان، 8% بالين و 8% بالاسترليني. ما سبق يعني أن الدولار يبقى متميزا، لكن العملات الأخرى تتقدم.
هل يمكن لأي عملة آخرى أن تحل مكان الدولار كنقد عالمي أول؟ لِمَ لا؟ تشير كل الوقائع الى صعوبة حصول ذلك في المدى القريب للأسباب التالية مجتمعة:
أولا: البدائل القوية الموازية ليست متوافرة الآن.40% من التبدال التجاري والمالي العالمي يحصل بالدولار الأميركي مقابل 3% باليوان الصيني. الصين ليست جاهزة مؤسساتيا وسياسيا وقانونيا وثقافيا لمواجهة الدولار. هم الصين حاليا مواجهة الكورونا بعد ان بينت الوقائع فشل السياسة الحالية وضرورة الانتقال الى أخرى، أي التلقيح للجميع وربما فرضه على المسنين أي 60 سنة وما فوق. فقط 40% من المسنين الصينيين ملقحون ضد الكورونا مقارنة ب 100% في الولايات المتحدة ومعظم دول الغرب. عزل مدينتي شنغهاي وشنزين لم يعطِ النتائج المتوخاة وهنالك على ما يبدو رفض من الحكومة الصينية بالاعتراف بالواقع. فتح المدينتين وغيرهما بالاضافة الى نشر الاحصائيات الحقيقية هي أكثر من ضرورية لمعالجة الأوضاع داخل الصين وبالتالي الحفاظ على الاقتصاد الصيني كمحرك أساسي للاقتصاد العالمي. تبين اليوم أن «الأوميكرون» ليس مؤذيا عالميا ليس لأنه أقل سوأ، بل لأن المجتمع الدولي ملقح أكثر من أي وقت مضى وهذا ليس حال الصين.
ثانيا: أما اليورو فيعاني من مشكلتين أولهما انقسام أسواق رؤوس الأموال الداخلية الى وطنية صغيرة نسبيا وبالتالي مشرذمة، وثانيا غياب التجانس بين السياسات المالية المختلفة التي تبقى وطنية بامتياز. تعاني أوروبا اليوم من ارتفاع خطير في حدة الشعور الوطني المتطرف، مما يمكن أن يؤخر أوروبا كثيرا ويعيدها عقودا الى الوراء. الانتخابات الوطنية المتنوعة تشير الى مشاكل محتملة تؤثر على صحة الاندماج الداخلي بين العرقيات والديانات المختلفة.
ثالثا: الأسواق المالية الأميركية هي الأقوى والأهم والأكثر شفافية وفعالية في العالم من دون منازع. فكيف للصين أو أوروبا أو غيرهما أن ينافسوا اليوم أسواق نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلس وغيرها؟ هذا يتطلب سياسات ووقت وجهود متواصلة.
رابعا: ارتفعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة العالمية 77% فوصلت الى 1,65 ألف مليار دولار في 2021. لكن الاستثمارات في الولايات المتحدة ارتفعت 114% الى 323 مليار دولار مما يشير الى استمرار الثقة العالمية في الاقتصاد الأميركي بالرغم من كل شيء، عقوبات أو غيرها.
خامسا: هنالك حاجة أسيوية لبقاء الولايات المتحدة وبالتالي سلاحها الأول قويا. تحتاج أسيا الى قوة الولايات المتحدة لضمان الحدود بين الدول مثلا بين الكوريتين وبين الصين وتايوان الصينية كما بين اليابان والصين أو بين اليابان وفيتنام وغيرها من النزاعات القديمة التي يمكن أن تتجدد. أسيا القوية ماليا واقتصاديا ونقديا ترغب بالحفاظ على الولايات المتحدة كقوة عظمى ضامنة للاستقرار.
لا شك أن النصف الأول من 2022 لا يدعو الى الارتياح بسبب أوضاع البورصات والأسواق التجارية والمالية العالمية، وهي ربما الفترة الأسواء منذ سنتين. يصاب الاقتصاد العالمي اليوم بالتضخم عبر ارتفاع أسعار المحروقات والسلع الغذائية، وهنالك مخاطر أمنية ربما تنتج عن الحرب الروسية الأوكرانية. سياسة رفع الفوائد من قبل المصرف المركزي الأميركي وان تكن ضرورية كسلاح ضد التضخم فهي ترفع تكلفة الاقتراض وتؤثر سلبا على النمو.