بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 أيلول 2021 07:17ص طموحات الحكومة ومحدودية قدراتها الإصلاحية

حجم الخط
يحتاج لبنان اليوم ومنذ بدء الانهيار الكبير الذي حدث كنتيجة طبيعية للانتفاضة الشعبية التي بدأت في 17 تشرين عام 2019، مع ما لحق ذلك من انهيارات وأزمات لاحقة، كان اخطرها وافدحها انفجار مرفأ بيروت الهائل في 4 آب 2020، إلى إعادة نظر شاملة لبنية الدولة، والتي تقتضي اجراء عملية إصلاحية عميقة وكلية تطاول جميع مؤسسات الدولة السياسية والمالية والاقتصادية والقضائية والإدارية.

ويبرز في صدارة أولويات ما يحتاجه الوضع الراهن وجود حكومة مسؤولة ومتماسكة وقادرة على اتخاذ القرارات الفاعلة والسريعة للامساك بدفة سفينة الدولة بإحكام كامل، لمنعها من التفكك والزوال، بعدما تعطلت كامل المؤسسات الإدارية والخدماتية كنتيجة لغياب القرار السياسي خلال فترة تزيد عن سنتين، وفي ظل الانهيار المالي والنقدي والذي تسبب بأزمة معيشية طالت جميع موظفي القطاعين العام والخاص، بحيث أصبح جميع الموظفين عاجزين عن الوصول إلى مراكز عملهم بسبب عجزهم عن تحمل نفقات النقل، وعدم توافر المحروقات على اختلاف اصنافها، فالادارات الرسمية على اختلافها باتت شبه معطلة بسبب اعتماد نظام الدوام الجزئي لموظفيها، والذي أدى في نهاية المطاف إلى دوام يوم واحد في الأسبوع. وفي رأينا فإن النتائج المترتبة على عملية الشلل الكامل في مؤسسات الدولة واداراتها ستؤدي إلى مزيد من الانهيارات لكل الخدمات العامة، مع كل ما يمكن ان يؤدي إليه ذلك من نتائج كارثية على قطاعي الخدمات العام والخاص، وإلى تعطيل شبه كامل لكل الطاقات الانتاجية والخدماتية في البلاد.

كان من الواضح ان الخطوة الأولى على طريق إنقاذ ما تبقى من الدولة تتمثل بتشكيل حكومة إنقاذية، تعثر تشكيلها بعد فشل حكومة «اللون الواحد» التي شكلها حسان دياب، والتي فشلت فشلاً ذريعاً في وقف أي من الانهيارات التي اجتاحت البلاد ومؤسسات الدولة، وخصوصاً لجهة التأثيرات السلبية الكبرى لانهيار قيمة الليرة تجاه الدولار الأميركي، حيث رافق ذلك ارتفاع جنوني لكل الأسعار، بالإضافة إلى تعطيل سياسة الدعم التي تعتمدها الدولة للضروريات واولها الحاجات المعيشية والمحروقات.

يتطلع اللبنانيون اليوم إلى حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مع قليل من الأمل، لاتخاذ الإجراءات والخطوات السريعة الكفيلة، أولاً بوقف الانهيار الكبير نحو الحضيض، والذي سيؤدي حتماً إلى تفكيك الدولة، والدفع بالتالي نحو اندلاع حرب أهلية ستؤدي حتماً إلى تقسيم لبنان، وسيطرة قوى ودول أجنبية على مختلف اجزائه، وثانياً لاستعادة المبادرة في اعتماد سياسة إصلاحية، تطاول جميع مؤسسات الدولة، والتي من المفترض ان تهدف أيضاً إلى تجديد الطبقة السياسية الفاسدة من خلال الدعوة لانتخابات نيابية في ظل قانون انتخابي جديد، يؤمن نزاهة الانتخابات، ويمنع بالتالي تشكيل المحادل الانتخابية التي يمكن ان تعيد إلى المجلس النيابي والسلطة نفس الطغمة الفاسدة، التي تسببت بخراب لبنان وافقاره.

لا بدّ ان يُدرك الرئيس ميقاتي كرجل أعمال ناجح مع هذه النخب من الكفاءات التي يمثلها العديد من الوزراء في حكومته منذ اليوم الأوّل لنيل الحكومة ثقة المجلس النيابي مدى حاجة لبنان لتدفقات مالية جديدة من الخارج، والتي يمكن ان تأمينها عبر قروض ومساعدات من المؤسسات المالية الدولية ومن الدول الشقيقة والصديقة، ولكن تبقى هذه التدفقات المالية رهينة قرارات الحكومة بالقيام بعمليات إصلاحية ضرورية وملحة، والتي تأتي عملية إصلاح قطاع الطاقة في رأس اولوياتها، والتي باتت تشكّل الخطوة الأولى على طريق استعادة الثقة ببنية الدولة وقدرتها على اعتماد سياسة إصلاحية. وترتبط عملية استعادة الثقة إلى حدّ بعيد بنجاح الحكومة في البلدء بمفاوضات هادفة وسريعة مع المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي الذي يمكنه ان يؤمن ما بين 3 و5 مليارات من التدفقات المالية الضرورية.

لا بدّ ان تدرك الحكومة ان التدفقات المالية التي يمكن ان تأتي عبر صندوق النقد الدولي لن تكون كافية لعملية الانقاذ، حيث تقدر احتياجات لبنان إلى ما بين 25 و30 مليار دولار، ويشكل ذلك تحدياً كبيراً امام الحكومة لاستعادة ثقة الحكومات العربية والأجنبية بالدولة اللبنانية، وبقدراتها على الإصلاح، وتفكيك نظام الفساد المعشعش في بنيتها السياسية والإدارية، تسارع إلى القول إلى ان الحكومة في ظل موازين القوى السياسية داخلها،وفي البلاد لا تملكالمبادرة أو حرية القرار للقيام بالخطوات اللازمة لمعالجة أي من الأسباب المباشرة والاساسية التي قضت بعزل لبنان عربياً ودولياً، وفرض حالة «قسرية» من الحصار المالي والسياسي والسياحي عليه منذ بداية عهد الرئيس ميشال عون، المتحالف علناً مع حزب الله ومحور الممانعة.

اذاً ارادت الحكومة العمل بواقعية وحكمة فإن عليها ان تظهر ذلك من خلال نص بيانها الوزاري، وخصوصاً لجهة عدم تضمينه برامج إصلاحية كبيرة، لن تكون قادرة على مقاربتها سواء لجهة الفترة الزمنية الفاصلة عن استحقاق الانتخابات النيابية أو الرئاسية، وان تقتصر طموحاتها ووعودها على وقف عملية الانهيار واجراء بعض الإصلاحات الأوّلية لبعض القطاعات، والتي تسهّل دخول بعض المساعدات والقروض الدولية والعربية.

تستدعي الحكمة والواقعية ان تعتمد الحكومة رزنامة لخطة محددة الأهداف لوقف الانهيار، بالحصول أولاً على تدفقات مالية خارجية محددة، تؤمن لها القدرة على الاستمرار في وقف الانهيار النقدي والاجتماعي والخدماتي، ويتطلب ذلك من الحكومة التصدّي لظاهرة تفكك الإدارات الرسمية، وهي الظاهرة التي باتت تُهدّد بانهيار الدولة، وصولاً إلى المؤسسات العسكرية والأمنية.

بات المطلوب والملحّ جداً النظر في زيادة رواتب القطاع العام وزيادة بدلات النقل وتخفيف الأعباء الاجتماعية والمعيشية كخطوة أساسية على طريق إعادة تفعيل الإدارة العامة، والحفاظ على معنويات وعملانية القوى العسكرية والأمنية.

من هنا تبرز أهمية دور الحكومة في وضع سياسة ضريبية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الوقائع المالية والاجتماعية وتدهور قيمة النقد الوطني بعين الاعتبار، وذلك بخطوة سديدة وواعية على طريق بناء سياسة مالية وضريبية تساعد على وضع موازنة عامة لعام 2022، يجري من خلال سد جميع أبواب الهدر والتصدي قدر المستطاع للفساد المالي والضريبي في لبنان.

في نفس الوقت لا بدّ ان تحرص الحكومة على التحلي بالحكمة فتفسح في المجال لإصدار تشكيلات قضائية تؤمن الحد الأدنى اللازم من استقلالية وفعالية القضاء، مع تسريع عملية تأهيل جميع مؤسسات الرقابة الأساسية تحضيراً للظروف الملائمة لإصلاح الإدارات والتحقيق في آفة الفساد المعممة على كل المستويات في الإدارة.

في النهاية نصيحتي للحكومة ان تعتمد رؤية واقعية، فلا تغالي في توصيف طموحاتها الإصلاحية والمالية والاقتصادية، فتعتمد خطة إصلاحية، قادرة على الوفاء بتنفيذها بخطوات أساسية على طريق إعادة بناء الثقة بالدولة اللبنانية داخلياً وخارجياً.

يبقى من الضروري جداً ان تضع الدولة برنامجاً لاعادةالنظر بالقطاع المصرفي وإعادة هيكليته، وذلك من أجل تأهيله لإعادة إطلاق الاستثمارات اللازمة لتشغيل الاقتصاد وخدمة برامج إعادة البناء المنتظرة في مرحلة لاحقة لإعادة بناء البنى التحتية، وفي رأسها مرفأ بيروت، والمؤسسات العامة الخدماتية المعطلة، هذا بالإضافة إلى الحفاظ على حقوق المودعين من سوء الإدارة والجشع الذي أظهرته إدارات العديد من المصارف، وبتواطؤ من مصرف لبنان والمؤسسات الرقابية التابعة له.

يمكن للحكومة تأجيل وضع خطة إصلاحية شاملة مع خطة فاعلة لمحاربة الفساد والتحقيق المالي في المصرف المركزي والوزارات والإدارات العامة إلى حين تشكيل حكومة جديدة فتشكل في ظل مجلس نيابي جديد نتيجة الانتخابات المتوقع ان تجري في أيّار عام 2022.